موطني48| طه اغبارية

 وافق هذا الشهر (أيلول) مرور 29 عاما على توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، الاتفاق الذي كانت له تداعيات عميقة على القضية الفلسطينية.

حول هذه الذكرى وتداعيات الاتفاق على الشعب الفلسطيني، التقت صحيفة “المدينة” مع د. مهند مصطفى، المدير العام لمركز مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا، ومحاضر مشارك في الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي في كلية بيت بيرل.

 

موطني 48: لنبدأ بسؤال نظري، هل اتفاق أوسلو ذكرى أم واقع؟

مهند: اتفاق أوسلو هو واقع، وهو واقع يعيد ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ويمنع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. كان يمكن أن نسميه ذكرى، لو أن الاتفاق مات، كما يشير الكثير من السياسيين والباحثين على مختلف جنسياتهم، ولكن في الواقع اتفاق أوسلو لم يمت، بل أنه حيّ أكثر من أي وقت مضى.

موطني 48: كيف ذلك، هذه مقولة صارمة وصادمة في نفس الوقت؟

مهند: لا هي مقولة واقعية، ويمكن أن افسرها بشكل مطول، وقد تم قبول دراسة علمية لي بهذا الشأن في مجلة أكاديمية محكمة باللغة الإنجليزية. أوسلو أنتج ثلاث حقائق على الأرض، وهي حقائق تكرست مع الوقت، وما كان يُمكن لها أن تكون أو تتكرس لولا اتفاق أوسلو. الحقيقة الأولى وجود سلطة وطنية فلسطينية، ليست بدولة وبدون سيادة، تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق ثلاث، A,B,C، والفصل الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه الحقائق الثلاث أنتجها اتفاق أوسلو، وهي التي تبلور اليوم الموضوع الفلسطيني، وعدم تجاوزها فلسطينيا يعني بقاء اتفاق أوسلو. وبقاءه حيّا بوجودها، لأنها تؤثر على مستقبل القضية الفلسطينية، طبعا لصالح الاحتلال ومنع حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. لذلك يُمكن اعتباره نكبة سياسية على القضية الفلسطينية.

موطني 48: لماذا وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على الاتفاق؟

مهند: من خلال قراءة مذكرات أغلب القادة الفلسطينيين الذين شاركوا في اتفاق أوسلو، لم يتوقع أحد منهم هذه النتيجة، حتى اختيار اسم السلطة الوطنية هو اسم أستحضر من السياق الفلسطيني في السبعينيات. عندما تمّ الحديث عن إقامة “سلطة وطنية” على أي أرض تحرر من فلسطين، وحينها كان الحديث عن التحرير من خلال الكفاح المسلح في منظمة التحرير الفلسطينية. ولذلك لمنح هذه السلطة بُعدا رمزيا من التاريخ الوطني الفلسطيني. توقعت القيادة الفلسطينية وعلى رأسهم ياسر عرفات أن يُفضي الاتفاق إلى دولة فلسطينية على أساس حدود الرابع من حزيران 1967. لكن هذا الرهان فشل لأسباب كثيرة، ولكن أهمها أن اتفاق أوسلو كان نتاج غياب توازن القوى، وتراجع مكانة منظمة التحرير بعد حرب الخليج، لذلك فهو لم يكن اتفاقا نديا بين حركة تحرر وطني فرضت شروطها على دولة محتلة، بل بالعكس فرضت الدولة المحتلة شروطها على حركة التحرر الوطني، في لحظة تاريخية فارقة تبدل فيها النظام الدولي والإقليمي. ومصلحة إسرائيلية استراتيجية في خفض تكاليف الاحتلال. للتذكير فقط، كانت إسرائيل مسؤولة كدولة محتلة عن تقديم الخدمات المدنية للسكان الواقعين تحت الاحتلال، وهي كلفة كبيرة فضلا عن الثمن الإنساني الذي دفعته إسرائيل بسبب احتلالها الدائم. أوسلو كان منقذا لها.

موطني 48: كيف كان يمكن أن تظهر النديّة في الاتفاق؟

مهند: لو كان هنالك ندية، لما كان اتفاق أوسلو، ولكن حتى في سياق اتفاق أوسلو، ظهر توازن القوى بشكل صارخ في استمرار الاستيطان بعد توقيع الاتفاق. أوسلو لم يوقف الاستيطان ولم يضع حتى شرطا للتقدم في وقف البناء الاستيطاني، إسرائيل كانت تفاوض وتبني المستوطنات في نفس الوقت، تناقض رهيب في خضم تسوية سياسية مبنية على المفاوضات، وهذا كله قبل أصلا المطالبة بتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية.

موطني 48: هل كانت إسرائيل جادة في اتفاق أوسلو؟

مهند: طبعا، كان رابين جادا في الاتفاق، ولكن رابين قبل اغتياله بأسبوع عام 1995، ألقى خطابا هاما في الكنيست، أشار فيه إلى محددات الاتفاق النهائي ضمن اتفاق أوسلو، واعتقد أن خطاب بار ايلان عام 2009 الذي ألقاه بنيامين نتنياهو لا يختلف عنه كثيرا، وضع رابين شروط الحل النهائي إسرائيليا، عدم الانسحاب إلى حدود السادس من حزيران 1967، الإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية، السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الحدود مع الأردن وبقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة في غور الأردن، القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. لم يتحدث أحد عن حق العودة بجدية لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليين. وكانت العبارة الشهيرة آنذاك وحتى الان هي “حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين”، وهي عبارة لها معان سياسية كثيرة. علاوة على شروط رابين للحل، والتي جاءت مع اقتراب انتهاء مدة اتفاق أوسلو كاتفاق مرحلي، إسرائيل كانت جادة لتتخلص من فكرة الاحتلال التقليدي، السيطرة على حياة الناس اليومية واتباع نظام عسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبقاء قضية فلسطين كآخر قضية استعمارية، والانتفاضة الأولى التي انطلقت من الضفة الغربية، وأعادت الموضوع الفلسطيني للاهتمام العالمي، بعد تراجعها في سنوات الثمانينيات بعد الانسحاب الفلسطيني من لبنان عام 1982. الاحتلال كان حملا ثقيلا، ما حدث هو عمليا إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي، الانسحاب من المدن الفلسطينية (مناطق A) وبعدها الانسحاب من أغلب القرى الفلسطينية (مناطق B) وتسليم السلطة الفلسطينية مهام مدنية في هذه المناطق، وهكذا ازالت إسرائيل عبء الاحتلال الاقتصادي والدولي عليها، وأبقت مناطق C تحت سيطرتها الكاملة.

موطني 48: إذن، اتفاق أوسلو كان مصلحة إسرائيلية قبل أن يكون فلسطينية؟

مهند: بالتأكيد، اترك معارضة اليمين للاتفاق في بدايته، اتفاق أوسلو حقّق لإسرائيل مكاسب استراتيجية خارج السياق الفلسطيني، وأهمها إلغاء المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، الأمر الذي مكنها من الاندماج عميقا في السوق العالمي، واختراق دبلوماسي دولي أسهم في عقد وتجديد العلاقات الدبلوماسية مع دول مركزية، مثل الصين، الهند وروسيا، وغيرها من الدول الأفريقية والأمريكية الجنوبية ودول إسلامية كانت ضمن الاتحاد السوفييتي مثل أذربيجان. لهذا ليس بالصدفة أن النمو الاقتصادي الإسرائيلي وتحويل إسرائيل لقوة اقتصادية كبرى كان أحد أسبابه المركزية اتفاق أوسلو. علاوة على تخفيض كُلفة الاحتلال الاقتصادية والأهم السياسية.

موطني 48: ذكرت كل هذه المصالح لإسرائيل، ولكن اليمين عارض الاتفاق وحرض عليه، حتى وصل تحريضه لاغتيال رابين نفسه؟

مهند: اتفاق أوسلو كان صدمة أيديولوجية لليمين، القومي والديني. يطول الحديث حول ذلك، ولكن اختصرها كالتالي، انطلق اليمين القومي والديني من فكرة “أرض إسرائيل” الكاملة وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة. اليمين الديني انطلق من فكرة أكبر، لذلك كانت الصدمة أشد عليه، وهي فكرة ان الاحتلال عام 1967 كان جزءا من عملية خلاص ديني للأرض، الخلاص الديني هو مطلق وغير قابل للتغيير، وهذه قوته وقوة جاذبيته للجمهور. لذلك أوسلو انطلق من فكرة تسليم أراض من “أرض إسرائيل” لسيطرة غير يهودية، وعمليا نهاية فكرة “أرض إسرائيل”، هذه صدمة أيديولوجية كبيرة، لم يهتم اليمين بالديمغرافيا، بل بالأرض، وحتى جزء من اليمين، وخاصة في نخب الليكود القديمة كان مستعدا لفرض السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة ومنح الفلسطينيين حقوقا مدنية وسياسية ضمن الدولة اليهودية، وهنالك يمين اعتقد بإمكانية طرب العرب من هذه الأراضي وإقامة مملكة إسرائيل. ومع ذلك، أزعم وهذا موضوع دراستي التي ذكرتها سابقا، أن أوسلو تحول لمشروع اليمين ولعنة اليسار الصهيوني.

موطني 48: كيف ذلك، هل تبنى اليمين اتفاق أوسلو؟

مهند: لا أبدا، لا يستطيع اليمين تبني أوسلو فكريا وايديولوجيا، ولكن اليمين تطور سياسيا، وتبنى نتائج اتفاق أوسلو، والدليل البسيط لذلك أنه لم يلغ هذه النتائج وليس لأسباب دولية فقط. عمليا أنقذ أوسلو اليمين من ذاته، ودمر اليسار الصهيوني.

موطني 48: كيف أنقذه من ذاته؟

مهند: اليمين تبنى فكرة أنه لا يستطيع ضم كل الضفة الغربية، طبعا تم تنفيذ مشروع الانفصال عن قطاع غزة فترة شارون. لا يستطيع ضمها لأسباب تتعلق بالسكان الفلسطينيين، عندها لن تكون دولة يهودية، هذه فكرة اليسار، ولكن وجد اليمين فيها مخرجه السياسي، والمخرج كان في نتائج اتفاق أوسلو التي ذكرتها سابقا، أولا تكريس واقع السلطة الفلسطينية التي تسيطر على السكان وتقدم لهم الخدمات المدنية، هذا كان كافيا لليمين، هكذا تخلص من مشكلة السكان دون إقامة دولة فلسطينية، وتقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، وتركيز اليمين على مناطق C، وهي مناطق تشكل 60% من مساحة الضفة الغربية، وفيها كل المستوطنات والمستوطنين مع عدد سكان فلسطينيين لا يتجاوز في أحسن الأحوال 200 ألف فلسطيني، مقابل أكثر من نصف مليون مستوطن. لذلك لا يريد اليمين ضم كل الضفة الغربية، وإنما ضم هذه المناطق، وبقاء السلطة الفلسطينية كسلطة تهتم بشؤون السكان دون مسؤولية لإسرائيل عليهم. لذلك حوّل أوسلو اليمين كتيار واقعي، ومنحه أوسلو المخرج من مآزقه الأيديولوجي، وهذا واحد من تفسيرات صعود شعبية اليمين في إسرائيل في آخر عشرين عاما.

موطني 48: وكيف دمر أوسلو اليسار الصهيوني؟

مهند: لاحظ المفارقة التاريخية، أوسلو دمر أصحابه. دمر منظمة التحرير الفلسطينية مقابل السلطة الفلسطينية، ودمر اليسار الصهيوني مقابل اليمين. لسؤالك، اليسار الذي حمل أوسلو ليس هو يسار اليوم، يسار دولة الرفاه، بل كان يسارا له نزعة أمنية لم يستطع اليمين منافسته عليها، وهو يسار مدرسة حزب “مباي” التاريخي. ذهب حزب العمل صاحب النزعة الأمنية بقيادة رابين لأسباب أمنية، وروج أوسلو كصيغة أمنية وليس لرفع الظلم عن الفلسطينيين، أو بسبب اعترافه بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. ولكن أوسلو تكتيكيا زعزع الأمن الشخصي للإسرائيليين بسبب العمليات التفجيرية في الحافلات داخل المدن الإسرائيلية، التي بدأت في ذلك الوقت. عندما بدأ أوسلو كانت شعبيته مرتفعة في صفوف الإسرائيليين، وتلاشت مع تراجع الأمن الشخصي. لم يكن لليمين قدرة على مقارعة أوسلو أيديولوجيا، سياسيا وشعبيا لولا هذه العمليات، لذلك انهارت فكرة اليسار بأن السلام يجلب الأمن، وانهار اليسار نهائيا بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية بعد فشل مباحثات كامب ديفيد فترة ايهود براك. ومع انهيار اليسار صعد اليمين على أرضية أوسلو وازدادت شعبيته دون أن يلغي نتائج اتفاق أوسلو، بل ذهب شارون إلى خطة الانفصال عن غزة وبناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية.من

موطني 48: كيف للفلسطينيين تجاوز تداعيات اتفاق أوسلو؟

مهند: الجواب بسيط، لكن يحتاج إلى إرادة كبيرة لتنفيذه. تجاوز أوسلو يكون من خلال إلغاء ونفيّ نتائجه على الأرض. أولا إنهاء الانقسام الفلسطيني، والفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة. إلغاء مركزية السلطة الوطنية الفلسطينية وإعادة مركز القرار والفعل السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها، بحيث تكون السلطة ذراعا للمنظمة وليس العكس كما هو الان فعليا. وخوض نضال فلسطيني شعبي ودولي ودبلوماسي موحد ومنظم ضد الاستيطان وفصل مناطق C عن باقي المناطق. ولكن، يجب التأكيد أن تجاوز أوسلو لوحده ليس كل المآزق الفلسطيني الحالي، رغم أنه سبب مركزي له، هنالك حاجة لإعادة بناء وحدة الشعب الفلسطيني، وتنظيم الشتات، والإجماع على مشروع سياسي وطني.