"النكبة كانت الحدث الأهم والمؤسس في حياة عرب الداخل ومركباً أساسياُ في تشكيل وعيهم. ولا يمكن فهم تاريخ عرب الداخل دون فهم تاريخ النكبة بشموليتها وبتفاصيلها، أي ما حدث في كل بلد وبلد، وخاصة خلال سنة كاملة من حرب 1948 واستمرار أحداث النكبة"، هذا بعض ما جاء في محاضرة د. عادل مناع في مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية.
وكان مركز مدى قد استضاف أمس (الأربعاء) الدكتور عادل مناع في محاضرة تحت عنوان "المعاني المختلفة للنكبة في الجليل في 1948" حضرها العديد من الباحثين والناشطين السياسيين. والدكتور عادل مناع مؤرخ وباحث بارز، أدار مركز دراسات المجتمع العربي في إسرائيل في معهد فان لير في القدس حتى عام 2007. وكان د. مناع قد سلط الضوء عبر كتابين له باللغة العربية على تاريخ فلسطين خلال الحقبة العثمانية وهما: أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني 1800-1918 (1995) وتـاريخ فلسـطين في أواخـر العـهد العثماني، 1700-1918 (1999). ومحاضرته هذه في مركز مدى تعتمد على بحث مطوًل حول النكبة في الجليل يعكف عليه منذ عدة سنوات، ومن المتوقع أن يصدر الجزء الأول منه قريبا.
افتتح الندوة البروفيسور نديم روحانا مدير عام مركز مدى الكرمل، فتحدث عن نشاطات مدى القريبة وقدم الدكتور مناع. ثم استهل د. مناع محاضرته موضحا أنه سيحاول تفكيك الخطاب التاريخي والشمولي للنكبة، من خلال التركيز على النكبة في منطقة الجليل كحالة دراسية، وأنه سيتناول المعاني والدلالات المختلفة للنكبة، عبر الخوض في التفاصيل بنظرة شمولية، وفي محاولة للإجابة عن العديد من الأسئلة الصعبة والملحة.
قال الدكتور مناع إنه بعد النكبة وحتى عام 1948 (أي قبل تسليم منطقة المثلث وضمها لإسرائيل عام 1949) شكل سكان الجليل الجزء الأساسي من فلسطينيي الداخل، حيث بقي هناك نحو 106 آلاف فلسطيني من أصل 120 ألف فلسطيني بقوا ضمن حدود الدولة العبرية. ثم طرح مجموعة من الأسئلة التي تفرضها هذه الحقيقة: لماذا بقى هذا العدد في الجليل؟ لماذا نجت الناصرة وقراها من مصير طبريا وصفد وغيرها؟ لماذا لم تبق قرى عربية في الجليل الشرقي، حيث دُمرت 86 قرية من أصل 90 قرية؟
ثم ذكر الدكتور مناع أن الكتابة عن النكبة (عربيا وإسرائيليا) تميّزت حتى الآن بنوعين من الكتابة: الكتابة الشمولية التي تغفل التفاصيل، والمحلية التي تفتقد للنظرة الشمولية دون محاولة الربط بين الحدث المحلي والقضية العامة والأشمل. بعدها قسم د. مناع النكبة في الجليل إلى أربع مراحل، لكل مرحلة خصوصيتها وأحداثها: المرحلة الأولى وتمتد من كانون أول 1947 وحتى نيسان 1948، أي قبل تنفيذ الخطة (د) الخاصة باحتلال مدن وقرى فلسطينية وطرد سكانها. وذكر أنه في هذه المرحلة وفي 18 كانون الثاني 1947 ارتكب الجيش الإسرائيلي أول مجزرة في قرية الخصاص بمشاركة "الهجانا"، حيث قتل الجيش 13 رجلاً وامرأة وطفلاً وهم نيام في بيوتهم. وفي 31 كانون أول 1947 نفذت "الهجانا" مجزرة في بلد الشيخ وقتلت 60-70 من الرجال والأطفال والنساء، وتم تهجير سكانها.
المرحلة الثانية تبدأ من نيسان 1948 وحتى تموز؛ والمرحلة الثالثة، هي مرحلة حرب الأيام العشرة بعد اتفاقية وقف إطلاق النار الأولى، وبدأت من 9 تموز حتى 18 تموز. في هذه المرحلة تم احتلال الجليل الأسفل والغربي؛ أما المرحلة الرابعة فهي مرحلة احتلال "جيب الجليل، والتي تم احتلاله خلال يومين بعد خروج جيش الإنقاذ. وقد أشار د. مناع أنه، ومع بداية الحرب، تعامل معها الفلسطينيون وكأنها نسخة جديدة من ثورة 1936-1939 فلم يستعدوا لها كما يجب. وقال إن الوعي جاء متأخراً كثيراً بأن الحديث هو عن حرب مصيرية، وخاصة بعد عمليات الترانسفير ومنع المهجرين من العودة إلى قراهم ومدنهم.
وقال د. مناع إن عدة عوامل أثرت في بقاء النسبة الأكبر من سكان فلسطين الداخل في منطقة الجليل، منها: بدأ الوعي بخطورة الحرب مما أدى إلى نوع آخر من تصرف السكان وتعاملهم مع الحرب وتمسكهم في قراهم؛ بدأ الضغط على إسرائيل بعد الجرائم التي ارتكبتها في اللد والرملة. وقال أيضا إن الجليل كان على هامش فلسطين التاريخية، حيث كان المركز في القدس، وإن كون الجليل بعيداً عن المركز قد أثر كثيراً على الأحداث وتصرف السكان، لبعدهم عن سلطة القيادة المركزية.
بعدها تناول الدكتور مناع "حالة الناصرة" وقراها. وتساءل: كيف حدث في بداية تموز أن ارتكبت الصهيونية مجازر فظيعة في اللد والرملة وطردت نحو 70 ألف نسمة، وفقط بعدها بنحو أسبوع تم احتلال الناصرة ولم يتم تهجير سكانها أو تدميرها، وكيف بقيت معظم قرى الناصرة؟ وقد عزا الدكتور مناع ذلك إلى عدة أسباب منها: الطابع الديني التاريخي للناصرة، بدأ الضغوطات الدولية على إسرائيل، بداية وعي السكان وتمسكهم في وطنهم، دور جيش الانقاذ الذي رابط على مداخل الناصرة ومنع السكان من المغادرة، أحيانا تحت تهديد السلاح، دور عصبة التحرر (فيما بعد الحزب الشيوعي الإسرائيلي).
هنا تناول د. مناع الدور الذي لعبته عصبة التحرر وتغيير موقفها بتأثير ستالين. وقال إنه حتى تاريخ 19 – كانون الأول 1947، كانت العصبة تتحدث عن دولة واحدة متواصلة ولم تتحدث عن أي حل قومي لليهود، بل كانت تعتبر الصهيونية حركة استعمارية. وذكر أن الشيوعيين اليهود في تلك الفترة وبعد صدور قرار التقسيم طالبوا بالانضمام للهاجانا وإقامة دولة يهودية. كما تطوع قيادة الشق اليهودي للحزب الشيوعي في الجيش وعمل على جلب السلاح وفرق المتطوعين إلى إسرائيل. من هنا بدأت عصبة التحرر بتبني موقف مختلف كليا، فوافقت على قرار التقسيم وبدأت تتحدث عن "حرب بين الشعوب وبين الاستعمار" في حين كان رفاقهم اليهود يقاتلون في صفوف الهاجانا ضد الفلسطينيين.
"بتاريخ 11.7.1947 وبعد دخول الجيوش العربية لمساعدة فلسطين، أصدرت عصبة التحرر منشورا يدعو الجيوش العربية لمغادرة فلسطين والعودة إلى بلادهم"، قال د. مناع. كما أصدرت عصبة التحرر مناشير مماثلة وزرعتها على جيش الانقاذ وحرضتهم على عدم القتال وترك فلسطين. وأشار د. مناع إلى أن صحيفة الاتحاد بدأت تتحدث عن "تحرير الجليل" من جيش الانقاذ، مع العلم أنه وحسب قرار التقسيم كان من المفروض أن يكون الجليل ضمن الدولة الفلسطينية. وقال أيضا إنه يتضح من وثائق المخابرات الصهيونية في حينه ("شاي") أنه كانت دعوة لعدم التعرض للشيوعيين العرب وعدم ملاحقتهم "لأنهم يقومون بدور لصالح إسرائيل"