بعد عاصفة النكبة التي ضربت الشعب الفلسطيني عام 1948 وعصفت بكينونته ومقدراته وحولت أجزاء كبيرة منه إلى لاجئين في الشتات، بقي في إطار الدولة اليهودية التي أقيمت في أعقاب تلك النكبة قرابة مئة وخمسين ألفاً من الفلسطينيين فرض عليهم نظام الحكم العسكري الذي كان القصد الأولي منه تحديد تحركاتهم والتحكم بالعمليات الجارية في أوساطهم ومنع تواصلهم مع المحيط العربي العام . بل جرى العمل كذلك على منع التواصل بين مكونات الأقلية القومية العربية والتي تركزت في ثلاثة تجمعات أساسية لا تواصل جغرافياً بينها (الجليل والمثلث والنقب)، بالإضافة إلى التجمعات الصغيرة التي تبقت في ما عرف لاحقا بالمدن المختلطة كحيفا ويافا واللد والرملة وعكا .
كان نظام «الحكم العسكري» هو الجهاز القانوني ـ العسكري ـ السياسي الذي مكّن، بعد 1948، السلطات الإسرائيلية من استمرارية بناء الدولة اليهودية، بحسب أساليب «البيت القومي» في فترة الانتداب، أي: بناء مؤسسات وأنظمة الدولة من دون العرب ومع تجاهل وجودهم. وقد كانت الفرضية الأساسية التي حركت أنظمة هذا الحكم وآلياته هي النظر إلى المواطنين على أنهم خطر أمني استراتيجي داهم، أو كما وصفهم بعض مصممي الرأي العام الإسرائيلي، في حينه، بأنهم «قنبلة موقوتة» أو «طابور خامس» أو «مشكلة أمنية مزمنة». وقد غذت هذه الأوصاف مخيلة مَن تعامل مع المواطنين العرب من موظفين وضباط وجنود… الخ، وأضحت أساساً للتعامل معهم طيلة سنوات الحكم العسكري، بل لا نبالغ إذا قلنا إن ذلك ما زال مستمراًَ حتى أيامنا هذه .
لقد قرر مجلس الدولة الموقت في أثناء حرب 1948 أن يطبّق على الجليل والمثلث والنقب وعلى مدن الرملة واللد ويافا ومجدل-عسقلان (التي هجر سكانها لاحقاً عام 1951) أي على المناطق التي كانت مأهولة حين انتهاء المعارك بأغلبية عربية كبيرة ـ سيادة خاصة لحكم عسكري. في البداية تم وصف هذه المناطق بأنها «مناطق مدارة» وذلك لأنها وقعت بمعظمها ضمن الأراضي المخصصة للدولة العربية بحسب قرار التقسيم. ولكن مع تقدم الوقت نظرت السلطات الإسرائيلية إليها على أنها جزء من الدولة وليست «مناطق مدارة» مرشحة للإعادة والإخلاء في حالة تم الاتفاق على ذلك .
منذ ذلك الحين وحتى وقف العمل بالحكم العسكري خلال سنة 1966، كان هذا الحكم هو الجسم المؤسسي المركزي الذي نشط في صفوف الأقلية العربية في إسرائيل. وقد اعتمدت الصلاحية الدستورية للحكم العسكري على أنظمة الدفاع الانتدابية لزمن الطوارئ (1945) التي تبناها مجلس الدولة الموقت وبعده الكنيست الإسرائيلي، إضافة إلى قوانين انتدابية أخرى جرى استغلالها لإضفاء صفة الشرعية على نظام الحكم العسكري وتسهيل أمر قبول تبعاته خاصة فيما يتعلق بالأبعاد الأخلاقية والسلوكية. وقد طبّقت هيئات الحكم العسكري خمسة بنود فقط من بين 162 بندًا من أنظمة الطوارئ، ثلاثة منها (رقم 110، 111، 124) هدفت إلى تمكين الحاكم العسكري من السيطرة، والحد أو حتى منع الحركة للمواطنين الواقعين تحت سلطته. أما البندان الآخران (رقم 109، 125) فقد هدفا إلى تمكين الحاكم العسكري من منع دخول المواطنين إلى مناطق أُعلن عنها أنها مناطق مغلقة. وقد سهل تطبيق هذه البنود على سلطات الحكم العسكري والسلطات الإسرائيلية بشكل عام تطبيق سياساتها تجاه المواطنين العرب تحت ستار الحفاظ على الأمن العام، وخاصة سياسة مصادرة الأراضي وشرعنتها بحيث تم استغلال أحد بنود نظام الطوارئ والذي يبيح للوزير المعني مصادرة أي ارض يمر عليها حول ولم تفلح، ولا سيما أن أصحابها لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب عدم حصولهم على التصاريح اللازمة لذلك. ومن الجدير ذكره هنا أن هذا الاستغلال لقوانين الطوارئ خلال فترة الحكم العسكري من مصادرة ما يقارب الخمسة ملايين دونم، وهو رقم لم تصل إليه المؤسسات الصهيونية الفاعلة منذ بداية المشروع الاستيطاني اليهودي عام 1881 وحتى العام 1948 .
وقد اتضح بناء على الحقائق الديمغرافية في المنطقة الخاضعة لسلطة الحكم العسكري أن مهمته الرئيسية كانت مهمة مدنية وهي: مراقبة لصيقة على الأقلية العربية ، بحيث كانت لهذه المراقبة التي عُرّفت بأنها «مراقبة أمنية»، تعبيرات كثيرة تركّزت في منع حرية الحركة وحرية العمل وحرية التنظيم السياسي في أوساط المواطنين العرب.
كان الهدف من نشاط الحكم العسكري التوصّل إلى حالة تقارب الإلغاء لمعاني المساواة العملية للمواطنة التي مُنحت للعرب، وإفراغها من معظم تبعاتها وأبعادها، ليتسنى إقصاؤهم عن جميع أجهزة الدولة اليهودية، وليسهل سياسة التمييز ضدهم في كل مجال، وتعميق التجزئة والتمزق والتشرذم في صفوفهم ، من أجل منع تبلورهم في جماعة قومية، وحتى إبعادهم الجسدي – في حالة أن الأمر كان ممكنًا كجزء من جهاز عسكري آخر. وحقاً، جاءت عملية إلغاء الحكم العسكري البطيئة بعد أن استخلصت المؤسسة الإسرائيلية العِبَر من حرب سيناء (1956) ومجزرة كفر قاسم التي واكبتها ومن ضمنها الإدراك بأن الأقلية العربية لن تبادر إلى مغادرة البلاد.
إن التعبير الصريح عن كون الحكم العسكري جهازًا عسكريًا نشط في شؤون مدنية هو أن ضابطًا بدرجة عميد كان رئيسًا للحكم العسكري في هيئة الأركان العامة، وفي الوقت ذاته رئيسًا لقسم الحكم العسكري في وزارة الأمن. وقد كان هذا الضابط، في وظيفته المدنية، ملحقًا برئيس الأركان، وفي وظيفته المدنية ملحقًا بوزير الأمن.
في سنة 1959 صرح مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية أنه في سنة 1949 كان المواطنون العرب «مرتبكين، معزولين، منقسمين ومذعورين». وعلى العكس تمامًا من هذا الوصف، فإن الركيزة المبدئية والجماهيرية والسياسية للحكومة، عند إنشائها واستمرارها في تنفيذ الحكم العسكري، كانت الادعاء بأن هؤلاء المواطنين يشكّلون خطرًا أمنيا على وجود الدولة اليهودية. وقد قُبل هذا الادعاء على انه صحيح وواقعي وتعرّض إلى نقد بسيط. مع هذا، فمنذ سنوات الدولة الأوائل طُرحت على مستوى الجماهير الإسرائيلية، في الكنيست وفي قيادة حزب مباي، انتقادات وتحفظات عن طابع الحكم العسكري ومهماته وحتى عن الحاجة إلى وجوده. ولذا، فإنه منذ إقامته قام موظفون معينّون ولجان بفحص نجاعته، وأُحدثت فيه تغييرات جوهرها تقليص المساحة التي كانت تحت سيادة الحكم العسكري.
لكن، على الرغم من أن الاحتجاج البرلماني والشعبي ضد مجرد وجود الحكم العسكري ازداد حدّة منذ نهاية الخمسينيات، إلا أن الجهاز العسكري للحكم لم يُلغ في حينه بسبب تعريف راسمي السياسة الأمنية للدولة، وعلى رأسهم من كان حتى 1963 رئيسًا للحكومة ووزيرًا للأمن، دافيد بن غوريون، لمهمة الحكم. هذه القيادة أمسكت (حتى 1965) بزمام الحكم العسكري كأداة أساسية لتحقيق السيطرة على العرب، وإقصائهم عن الأجهزة السياسية وتنفيذ مشروع تهويد وعبرنة البلاد، وأحيانًا حتى بشكل أساسي، كوسيلة ردع للخارج. وهكذا، فإن استمرار وجود الحكم العسكري جاء ليبرهن للدول العربية أن حكومة إسرائيل لا تقلص قوة الجيش الإسرائيلي، ولا تغرق في اللامبالاة، إنما تبقى متيقظة للخطر الوجودي الذي كانت معرضة له، والذي شكل الشماعة التي علقت عليها أوزار الحكم العسكري .
صحيح أن نظام الحكم العسكري تم إلغاؤه في تشرين الثاني 1966 ، ولكن موروثه من آليات عمل وسياسات وسلوكيات سلطوية تجاه المواطنين العرب ما زال يشكل الأرض الصلبة لسياسة التمييز الصارخ بحق هؤلاء المواطنين، للمحاولات الدائبة لتهميشهم وتغييبهم ونزع الشرعية عنهم، بل ترحيلهم القسري من ديارهم الذي بات طرحاً سياسيا متداولاً في ردهات السياسة الإسرائيلية.
للمقالة الأصلية اضغط هنا.