صدرت في السنوات الأخيرة ثلاث وثائق فلسطينية حول المستقبل السياسي للفلسطينيين في إسرائيل، كانت كل واحدة منها نتاج عمل جماعي لمجموعة من المثقفين والناشطين السياسيين وناشطي العمل الأهلي. عقد الاجتماع الأول حول اصدار وثيقة رؤيوية تهدف الى صياغة تصور جماعي حول مكانة الفلسطينيين في إسرائيل ومستقبلهم الجماعي في أيار سنة 2002 في «مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية» في مدينة حيفا. وقد أسسّ الاجتماع مجموعة عمل اصبحت نواة الهيئة العامة لوثيقة اصبحت تعرف باسم «وثيقة حيفا» والتي كانت الإطار الاول منذ النكبة الذي عمل على إيجاد الحيز لمنصة وطنية مستقلة وغير حزبية، تعمل فيها مجموعة من الاكاديميين والمثقفين والنشطاء لمدة سنوات متواصلة في عملية تفكير جماعي ودراسة وبحث ونقاش متعمق وحرّ حول موضوع مستقبل الفلسطينيين في إسرائيل. وأصدروا وثيقة تعرض هذه التصور الجماعي يوم 15/5/2007.
في السنوات اللاحقة لبدء العمل على وثيقة حيفا، بدأت مجموعات اخرى من الأكاديميين والناشطين بالعمل على مشاريع شبيهه تختلف أحياناً في منهجية العمل والمحاور المركزية. فبالإضافة إلى وثيقة حيفا أُنتجت ونُشرت وثيقتين أخريين هما «التصور المستقبلي» في كانون الأول 2006 و«الدستور الديموقراطي» الذي أعدّه مركز «عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل» في آذار 2007. كما وصدرت ورقة رابعة حول «الدستور والحقوق الجماعية للمواطنين العرب» من المهم ان نشدد ان الافكار السياسية الأساسية التي تطرحها هذه الوثائق تحظى بتأييد واسع بين اوساط النخب والجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل. وهذا التأييد الواسع يشكل القوة الكامنة في الفكر السياسي الذي تعكسه هذه الوثائق.
وتشترك الوثائق كلها في رفض فكرة الدولة اليهودية من ناحية وطرح بديل ديموقراطي وثنائي القومية (في حالة «وثيقة حيفا» و«التصور الديموقراطي») او دولة متعددة الثقافات وثنائية اللغة (في حالة «الدستور الديموقراطي»). ويأتي رفض الدولة اليهودية واضحاً وحاداً. وتطالب وثيقة حيفا مثلاً بدولة ديموقراطية مؤسسة على المساواة بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين. وتفصّل الوثيقة متطلبات هذا الحل: «تغيير المبنى الدستوري، وتغيير تعريف دولة إسرائيل من دولة يهودية الى دولة ديموقراطية تتأسّس على المساواة القوميّة والمدنيّة بين المجموعتين القوميّتين وإرساء أسس العدالة والمساواة بين كافة مواطنيها وسكانها… وتأمين مبدأ التعددية الثقافية لجميع المجموعات والمشاركة الفعلية للأقلية الفلسطينية في الحكم وتكفل حق تقرير مصيرنا كأقلية وطن». وتعدد وثيقة حيفا مطالب المشاركة في الحكم وحق الفيتو وتقاسم الموارد، وهي ميكانيزمات سياسية تميّز وتُعرف الدولة ثنائية القومية. كما تنص وثيقة «التصور المستقبلي» على انَّ: «تعريف الدولة بأنها دولة يهودية واستعمالها للديموقراطية لخدمة يهوديتها يقصينا ويضعنا في تصادم مع طبيعة وماهية الدولة التي نعيش فيها. لذلك نطالب بنظام ديموقراطي توافقي يمكننا من المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار والسلطة لضمان حقوقنا القومية والتاريخية والمدنية الفردية والجماعية» (التصور المستقبلي، ص 5). اما «الدستور الديموقراطي» فيطالب بدستور «في دولة لا تسيطر وتحتل شعب آخر وقائمة على المساواة التامة بين كافة سكانها وجميع مجموعاتها، ….في دولة ديموقراطية ثنائية اللغة متعددة الثقافات».
ان معنى عدم القبول بإسرائيل كدولة يهودية، كما تنص جميع الوثائق، هو أن الفلسطينيين في إسرائيل لا يقبلون بشرعية الدولة اليهودية كنظام سياسي. ويستطيع الفلسطيني في إسرائيل المجاهرة بهذا الموقف لأنه يطرح بديلاً ديموقراطياً يعتمد المساواة بين الافراد والمجموعات القومية، وهو مطلب يعتمد الاسس الديموقراطية الأممية. والأهم من ذلك في اعتقادي، فإن هذا الموقف يعني ضمنا عدم القبول بقرار التقسيم 181، حسب التفسير الإسرائيلي. حتى في الظروف السياسية والديموغرافية التي نتجت عن النكبة وعن عملية التطهير العرقي، وحتى لو وضعنا قضية اللاجئين جانبًا للحظة، لم يعد بالامكان القبول بدولة يهودية في حالة التركيب السكاني داخل إسرائيل، عداك عن استحقاقات حق العودة الذي تطالب بتحقيقه هذه الوثائق. وقد اصبح واضحًا للفلسطينيين في إسرائيل ان القبول بالدولة اليهودية يعني ان يحكم عليهم بعدم المساواة في وطنهم وبأن يكونوا مجموعة قومية بدون انتماء الى دولة وحتى الى وطن.
إن الرفض الضمني لقرار التقسيم هو احد اهم معاني هذه الوثائق، حتى لو لم تتطرق اليه أيٌ منها بشكل مباشر وحتى لو لم تتم مناقشته قبل او بعد اصدار الوثائق. وقد ينبع تحاشي النقاش في هذا الموضوع من مغازيه السياسية البعيدة المدى او من عدم الاتفاق بخصوصه بين التوجهات السياسية المختلفة. الا ان هذا لا يمنعنا من ان نلاحظ ان عدم القبول بالدولة اليهودية يعني في الواقع عدم القبول بقرار التقسيم حسب التفسير الإسرائيلي.واذا ما تركنا مسألة رفض قرار التقسيم آنيا والتحدي الكامن فيه وعدنا الى مسألة الدولة اليهودية فإننا نلاحظ ان هذا الرفض لفكرة الدولة اليهودية والمطالبة بتحويلها الى دولة ديموقراطية يأتي في مرحلة أصبح فيها حل الدولتين برنامجاً دولياً تتبناه الولايات المتحدة وتطالب فيه إسرائيل نفسها. الا ان إسرائيل اخذت في الفترة الأخيرة تطالب أيضا – في إطار حل الدولتين – الاعتراف بها كدولة يهودية. ودخلت المطالبة الإسرائيلية بهذا الموضوع الخطاب الدبلوماسي العالمي وخاصة الخطاب الذي تقوده الولايات المتحدة. وتكرر التشديد على «إسرائيل كدولة يهودية» او كدولة الشعب اليهودي في إطار «العملية السلمية» بين إسرائيل والفلسطينيين. وبدأ هذا الخطاب اميركياً خلال إدارة الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته الأول كولن باول والذي كان من اوائل من استعملوا هذا الخطاب. واستمرت الإدارة الحالية ممثلة في الرئيس ووزيرة الخارجية باستعمال نفس الخطاب إلى ان صار خطاباً مقبولاً في إطار «العملية السلمية». وتعتمد إسرائيل عند المطالبة بالاعتراف بها كدولة يهودية على قرار التقسيم 181 الذي نص على ان «تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية، والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس».
وكرد على بوادر هذه التحديات انشغلت الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها الاكاديمية وتلك التي تعنى بالمسائل الدستورية، الرسمية وغير الرسمية، قد انشغلت في العقدين الاخيرين في مشروع فكري سياسي جاء لتثبيت إسرائيل كدولة «يهودية وديموقراطية» . وقد اعتمد هذا المشروع على تطوير نظريات اكاديمية تحاول التوفيق بين الديموقراطية وعدم المساواة وعلى مشاريع دستورية رسمية وغير رسمية تثّبت يهودية إسرائيل وتأسيسها دستوريا على انها دولة يهودية وديموقراطية.
يأتي الموقف الجماعي للفلسطينيين في إسرائيل في مرحلة تشدّد فيها السلطة الفلسطينية ونخبها على حل الدولتين وتتغاضى عن سؤال الدولة اليهودية ومعناه بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين. وقد نما الانطباع بان النخب الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لن تتحدى في الوقت الحالي مطالبة إسرائيل بالقبول بها كدولة يهودية او دولة الشعب اليهودي في إطار حّل الدولتين ما دامت إسرائيل لا تصّر على اعتراف فلسطيني حاد ومباشر في هذا الخصوص.
لذلك في التحدي الذي يطرحة الفلسطينيون في إسرائيل للدولة اليهودية – فكرا وتطبيقا- قوة كامنة كبرى تتكّشف ببطء وتؤدي الى نقل مركز الثقل الفلسطيني في تحدي جوهر الفكرة الصهيونية تدريجيًا الى داخل إسرائيل نفسها. وفي اعتقادي فإن فشل حل الدولتين سيعمل على إعطاء الفلسطينيين في إسرائيل مركز ثقل لم يحصلوا عليه ابداً في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تحديد معالم الحل المستقبلي للصراع بين الصهيونية والشعب الفلسطيني.
ان الوثائق التي ذكرناها لا ترفض الدولة اليهودية فقط، ولكنها تضع الأسس الفكرية والديموقراطية لحل ثنائي القومية يبدأ داخل إسرائيل نفسها. وتبنت الوثائق حل الدولتين ولكن ليس دولتين لشعبين وإنما واحدة فلسطينية في الأراضي المحتلة وواحدة ثنائية القومية. والمهم في هذه الاسس التي وضعتها الوثائق هو ليس قابليتها للتطبيق في المستقبل القريب – لأننا نعلم ان ذلك ليس ممكنًا في إطار علاقات القوة الحالية. المهم هو تثوير الوعي الثنائي القومية القائم على المساواة الجماعية والفردية كحل مستقبلي. ولما اصبحت البرامج السياسية التي تعتمد المفاوضات من أجل حل الدولتين قليلة الاحتمال – ان لم تكن معدومة الاحتمال – ومع بروز الفكر الثنائي القومية والفكر الديموقراطي فقد ازدادت المكانة الأخلاقية والأهمية السياسية للفلسطينيين في إسرائيل. وبذلك فإن هذه الوثائق تتلائم تماما مع هذا التطور السياسي أيضا، وتساهم في اعطاء الفلسطينيين في إسرائيل مكانة سياسية في البرامج الفلسطينية المستقبلية نحو الحل الثنائي القومية. ولم تتبنَ أي من الوثائق برنامج الدولة الواحدة لأسباب يطول شرحها واكتفت بتثوير الوعي الثنائي القومية.
وفي واقع الامر فإن الفلسطينيين في إسرائيل، مثل اللاجئين الفلسطينيين هم اكثر المستفيدين من حل ثنائي القومية. وكان بعض مثقفيهم قد ساهموا في طرح هذا الفكر منذ مدة طويلة. وعليه فإن إحدى التطورات المركزية التي من الممكن ان نشير اليها في السنة الأخيرة هي المساهمة في تفكيك معنى الدولة اليهودية وتحديها وإرساء بعض الأسس الفكرية المتواضعة للتفكير الثنائي القومية.
إن القوة السياسية والاخلاقية الكامنة في هذه المواقف تمسّ صلب الصراع بين الفكر الصهيوني وإسرائيل من ناحية وبين الشعب الفلسطيني وقواه السياسية المختلفة من ناحية ثانية. وقد يتبدّى بعض من اهمية هذا التحدي في ردود الفعل الإسرائيلية الشديدة الحدّة على نشر هذه الوثائق. وقد شملت ردود الفعل المستوى الرسمي، الاكاديمي، والصحافي. وتميزت معظم الردود برفض المطالب المتعلقة بتغيير هوية إسرائيل ومُهاجمة الافكار المطروحة فيها بينما كانت هناك اصوات ادّعت ان المطالبة بالمساواة هي مشروعة لكنها لا تتناقض مع الدولة اليهودية. وسمى البعض هذه الوثائق «اعلان حرب» «وخروج عن سياق المطالب العادلة للأقليات»، «تهديد على كل مواطن يهودي» و«محاولة لتحويل إسرائيل الى دولة فلسطين» «وبداية الهلاك» و«خطر استراتيجي» وما اليه من تعبيرات. وفي المجمل فقد رأى الرأي العام اليهودي الرسمي والشعبي ان مطالب الوثائق تشكل خطرا استراتيجيا على إسرائيل، لا يقل اهمية عن الاخطار الخارجية (انظر مقالة اريج صباغ – خوري).
وتظهر ردود الفعل هذه ان التحدي الذي يطرحه الفكر والوعي السياسيان اللذان تعكسه الوثائق هو تحدي جدي لجوهر إسرائيل – الصهيونية. وتكمن اهميته وخطورته في انه يُطرح من قبل مواطنين يرون في أنفسهم أصحاب البلاد الاصليين، يعتمدون على اسس ديموقراطية ومبادئ اممية مثل المساواة ويكشفون في مطالبهم الاشكاليات الاخلاقية والسياسية في الفكر الصهيوني ويهددون لبّ الهوية الصهيونية بتوجه اخلاقي بإمكانه ان يلقى تجاوبا في العالم عندما يستطيع الفلسطينيون إيصاله.
وفي الواقع فإن احد مقومات قوة التحدي الذي يقدمه الفلسطينيون في إسرائيل لجوهر إسرائيل هو في الضعف الأخلاقي للفكرة الصهيونية نفسها التي لا تتعايش مع المساواة والتي تعتمد العنف ضرورةً لتحقيقها. ويزيد من قوة التحدي موقعهم كمواطنين يطالبون بمطالب ديموقراطية اساسية مثّل المساواة. وتبقى معاملة إسرائيل مع مواطنيها العرب احد المحكّات التي يتكشف من خلالها اعتماد الصهيونية الحتمي على العنف والتسلط والتمييز وسلب الموارد. ويتكشف ايضا التناقض الفظ بين الصهيونية ومبادئ المواطنة المتساوية بشكل لا تستطيع إسرائيل ان تخفيه تماما وراء ستار مواجهة الإرهاب او الاعتبارات الأمنية.
ويمكن الادّعاء ان الفلسطينيين في إسرائيل، وبحكم موقعهم كأقلية أصلانية في دولة يفرض نظامها دونية وعدم مساواة قد طوّروا في تعاملهم مع هذه الدولة اطروحات سياسية اخلاقية لأن هذه المجموعة الفلسطينية، بطبيعة الحال، تواجه الدونية والاستعلاء اليهودي المثبت قانونيًا ودستوريًا. الا انه يبقى السؤال اذا كان الفلسطينيون قادرين على تطوير استراتيجيات تمكّن من تحقيق القوة الكامنة في موقعهم وفي التحدي الذي يطرحون.
للمقالة الأصلية اضغط هنا.