التطورات الأخيرة في مصر، وخاصة إلغاء الدستور المصري الحالي، وتتابع الإعلانات الدستورية تستوجب مراجعة العديد من القضايا، ومنها ضرورة الدستور من عدمه، وموقع الدين فيه. سأقوم فيما يلي بعرض تاريخي موجز للعلاقة بين الدين والدستور في مصر وتونس، لأن هذا العرض يلقي الضوء على بعض مما يجري حاليا. وسأدّعي أن المقارنة بين المسار الدستوري التونسي والمصري ما بعد الثورات تبين أن التوانسة كانوا أكثر حكمة، وأن الثورات العربية هي مناسبة لتغيير علاقة الدولة بالدين من أجل اجتناب المخاطر التي في رأيي أوضحتها الحالة المصرية والتي سأعددها باختصار في نهاية هذه المقالة. 

أخونة الدولة؟

لنبدأ بالسرد التاريخي الموجز لتقييم الادعاءات عن أخونة الدولة في مصر. هذه الادعاءات تحمل شقين: الشق الأول هو تعيين أعضاء وتابعين للإخوان المسلمين في مناصب حكومية. وهذا لن أتطرق اليه. الشق الثاني هو أن الدستور المصري الذي أقرّ أيام محمد مرسي وحكم الإخوان هو أكثر إسلامية أو تدينا من الدساتير السابقة في مصر. سأبيّن فيما يلي أن هذا ليس صحيحا تماما. صحيح أننا رأينا خلال السنة الماضية الكثير من الأمور المستهجنة في الحيز العام والنقاشات البرلمانية مثل النقاش حول إيقاف جلسة البرلمان  أثناء الأذان، أو التساهل في زواج قاصرات، أو قانون إغلاق المحال التجارية في العاشرة مساء لتسهيل قيام صلاة الفجر في موعدها. لكن بما يتعلق بالنص الدستوري بما هو نص مؤسس لنظام الحكم والمبادئ التي يقوم عليها فإنه لم يكن مختلفا كثيرا عما سبقه من دساتير مصرية من حيث علاقته بالدين (من حيث التجديد هناك  بندان جديدان فقط).  بطبيعة الحال، الشكل الذي تمّ فيه إقرار الدستور كان إشكاليا وغير توافقي.

لنبدأ من البداية. تاريخ الدساتير المصرية يبدأ في عام ١٨٨٢ وهو دستور تم الغاؤه سريعا من قبل الاستعمار البريطاني. الدستور الأهم هو دستور ١٩٢٣ والذي كان إلى حد ما تقليدا للدستور البلجيكي والبروسي واستمر سريان مفعوله حتى عام ١٩٥٢ (ما عدا خمس سنوات ما بين ١٩٣٠ و١٩٣٥ التي ألغى فيها الملك فؤاد الدستور وأصدر دستور ١٩٣٠). ما يهمنا من ذكر هذا الدستور هو أننا نرى في المادة ١٤٩ تحت باب "أحكام عامة" جملة ستتكرر فيما بعد حرفيا في كل الدساتير المصرية — ما عدا دستور الوحدة بين مصر وسوريا الذي سرى مفعوله من ١٩٥٨-١٩٦٢– تقول هذه المادة: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية". الدساتير الأخرى في عهد عبد الناصر أي دستور ١٩٥٦ ودستور ١٩٦٤ أوردت هذه الجملة. الفرق هو أن الجملة انتقلت إلى المقدمة. المادة الخامسة تحت باب "الدولة" في دستور ١٩٦٤ والمادة الثالثة تحت باب "المقومات الأساسية للدولة" في دستور ١٩٥٦. هذه الجملة موجودة في الدساتير العربية بشكل عام حتى في الدول العلمانية مثل تونس أيام الحبيب بورقيبة وكذلك جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (ولكنها لم ترد في الدستور السوري ١٩٧٣).

هذه الجملة تصريحية وشكلية، ولا تعني الكثير على المستوى القانوني والدستوري ما دامت لا توجد الأدوات لتطبيقها. والحقيقة أن الدساتير العربية بشكل عام كانت تدرج في الأدبيات تحت خانة "الدساتير بدون دستورية" أي أنها مجرد حبر على ورق. لأنها لا تحمي حقوق الناس ولا تحد كثيرا من سلطة الحاكم. وطبعا تأثير الدساتير في كل حالة محدود أمام الثقافة السياسية السائدة والضغط أو القمع الاجتماعي. مثلا في الوقت الذي أعلن فيه دستور ١٩٢٣ عن حماية حرية الرأي والاعتقاد لم ينج علي عبد الرازق من الملاحقة بسبب كتابه "الإسلام وأصول الحكم" (1925)، ولا طه حسين بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي" (1926).  ولكن ذلك ليس دقيقا تماما فمحدودية تأثير لا تعني انعدام التأثير كما سأوضح بعد قليل.

إحدى الإمكانيات لجعل جملة "الإسلام دين الدولة" ذات مضمون ظهرت في الدستور الذي أقرّ أيام السادات عام ١٩٧١ والذي استمر العمل فيه حتى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١. لأول مرة تضاف الجملة التالية: "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع". في عام ١٩٨٠ قام السادات بتعديل هذه المادة الثانية من الدستور وحوّلها إلى "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". أضاف السادات هذه الجملة، أولا، لأنه أراد ان يحصل على مصادر شرعية مضادة لعبد الناصر الاشتراكي، وقدم نفسه على أنه الرئيس المؤمن. ثانيا، قوة التيار الإسلامي خاصة بعد هزيمة ١٩٦٧. ثمّ عدّل الجملة بعد ذلك لأن قوة الإسلاميين زادت بعد الثورة الإيرانية، كما زادت الانتقادات عليه بعد كامب ديفيد. تزامنت هذه التعديلات مع تغيرات دولية عامة منها ازدياد قوة التيار المحافظ في غالبية العالم كرد فعل على ثورية الستينيات. كما أننا بدأنا نرى كتابات متزايدة تهدف إلى التوفيق بين الإسلام والديمقراطية خاصة في الثمانينيات مثل طارق البشري وكمال أبو المجد ومحمد سليم العوا ويوسف القرضاوي وراشد الغنوشي ومحمد الجابري وفاطمة المرنيسي.

مرة أخرى هذه الجملة "مصدر رئيسي للتشريع" لا تعني الكثير إذا لم تكن هناك آليات لتنفيذها، وتغيير النص للتشديد لا يغيّر من الأمر شيئا. آلية التطبيق ظهرت عام ١٩٧٩ عند تأسيس المحكمة الدستورية العليا ومنحها سلطة مراجعة دستورية القوانين واللوائح بما في ذلك مدى تطابقها مع المادة الثانية أي مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

ولكن يجب أن نذكر أن أسباب تأسيس المحكمة لا تشمل الشريعة. أحد هذه الأسباب، كما أوضح الباحث تامر مصطفى، هو أن السادات أراد تشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي بسبب خسارة مصر لـ٢٠٪ من مجمل الناتج القومي الخام أيام حرب الاستنزاف. ولكي يشجع الاستثمار أراد ان يقنع المستثمرين أنه يختلف عن عبد الناصر، ولن يؤمم أو يصادر الملكية الخاصة. لذلك كان الحق في الملكية الخاصة مصونا في الدستور. ولكن ذلك لم يجذب المستثمرين فكان إنشاء المحكمة جزءا من هذه المحاولة لإقناعهم. وفعلا مع الزمن تحولت المحكمة إلى مدافع شرس عن الليبيرالية الاقتصادية والملكية الخاصة. ولذلك كان للدساتير أحيانا مردود محسوس.

لنعد للمادة الثانية. أفرغت المحكمة عمليا المادة من مضمونها، ولم تقم بإلغاء أي قانون بناء عليها رغم محاولات الإسلاميين المتشددين تفعيلها. قامت المحكمة بإفراغها من مضمونها بطريقتين رئيسيتين: حيث قررت أن مفعول المادة لا يسري بشكل رجعي على القوانين المصرية التي سنت قبل عام 1980، وأنها لا تؤخذ بالحسبان من مبادىء الشريعة إلا تلك التي لا خلاف حولها. بالتالي المادة بحد ذاتها ليست إشكالية كثيرا إذا كان يطبقها ويفسر الشريعة قضاة غير متدينين عيّنهم النظام. في العراق مثلا هناك مادة مشابهة وأيضا لم يتم استعمالها لإلغاء قوانين حتى الآن.

ما الجديد؟

الإشكالية في دستور ٢٠١٢ أنه تمت إضافة بند (المادة الرابعة) يجعل الأزهر المرجعية العليا في تفسير الشريعة. من غير الواضح متى وكيف يجب التوجه إلى الأزهر وكيف يتوافق دوره مع دور المحكمة، وقد رفض الأزهر نفسه بداية هذا الدور. وأنا في تقديري أن الإخوان ندموا على هذا البند، لأن السلفيين استعملوه لمحاولة منع القرض من صندوق النقد الدولي بحجة أن الفائدة على القرض مخالفة لمنع الربا في الشريعة الإسلامية.

البند الثاني الجديد في الدستور هو المادة ٢١٩ والتي تحدد على ماذا تشمل مبادئ الشريعة الإسلامية. وسبب هذا البند هو محاولة الإسلاميين تقييد حرية التفسير عند قضاة المحكمة الدستورية. وهذا البند تعويض للسلفيين لأنهم طالبوا بحذف كلمة "مبادئ" أو إضافة أحكام الشريعة على المادة الثانية لأنهم اعتبروا "مبادئ" كلمة مبهمة تسمح للقضاة بحرية التصرف. على كل حال في رأيي محاولة الحدّ من قدرة القضاة على التفسير هي في الغالب وهم. بالمقابل أضيفت المادة الثالثة كتعويض للمسيحيين، وهي تعكس الأمر الواقع بأن الأحوال الشخصية لغير المسلمين تحددها مبادئ تشريعاتهم الخاصة بهم.

الأمر الأخير الذي أريد أن أذكره بالنسبة للدستور المعطل هي المادة ١٠ التي تتحدث عن كون الأسرة أساس المجتمع، وأن قوامها الدين والأخلاق والوطنية. وتكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو أسرتها وعملها العام. بإمكاننا أن نقول أن هذه المادة هي أبوية وذكورية، ولكن علينا أن نذكر أن هذا البند مشابه للمادة السابعة في دستور عبد الناصر عام ١٩٦٤ وللمادة التاسعة في دستور السادات عام ١٩٧١. وعلى سبيل المقارنة البند مشابه للبند ٤٤ في دستور إيرلندا وكذلك للفصل ٧ في المسودة التونسية للدستور (٦/٢٠١٣). أكثر من ذلك، المادة ١١ من دستور ١٩٧١ تتحدث عن مساواة المرأة "دون الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية". هذه الجملة غير موجودة في دستور ٢٠١٢. ما أريد قوله إننا إذا اعتبرنا أن هناك عملية أخونة فإن الذي بدأ الأخونة هو السادات، وليس الإخوان المسلمين. لذلك  يجب أن نكون حذرين من التسطيحات التي نصادفها بشكل خاص في أدبيات العلوم السياسية أن الصراع كان بين دكتاتوريين علمانيين وحركات دينية.

التجربة التونسية

التجربة التونسية متباينة إلى حد ما عن التجربة المصرية. أول ظهور للدساتير في العالم العربي كان في تونس في عام ١٨٦١. ولكن الدستور الرئيسي هو الدستور الذي صدر عام ١٩٥٩ ما بعد الاستقلال. بالرغم من سمعة الحبيب بورقيبة كعلماني متأثر بالنموذج التركي الأتاتوركي إلا أنه لم يحذُ حذو الاتراك في إعلان الدولة علمانية في الدستور. بل يعلن الدستور في المادة الأولى أن "تونس دولة مستقلة ذات سيادة ودينها الإسلام ولغتها العربية". ولكن المادة الثامنة تمنع تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني.

لماذا فعل بورقيبة ذلك؟ كان بورقيبة  يؤمن، كما أوضحت الكاتبة مليكة زغال، أولا، أن التغيير في المجتمع باتجاه تحديثه يجب أن يتم بشكل تدريجي. ثانيا، أن التحديث يكون عن طريق تحديث الدين نفسه عن طريق السيطرة عليه من قبل الدولة (بعكس النموذج التركي الذي أقصى الدين إلى الحيّز الخاص). ثالثا، أن الدولة يجب أن تكون مغروسة في عاطفة الناس والدين يلعب دورا في ذلك.

من المثير هنا أن نستذكر أن بورقيبة أيام النضال ضد الاستعمار كان يدافع عن الحجاب. فقد نشر على سبيل المثال مقالا صحفيًا عام ١٩٢٩ يدافع فيه عن الحجاب لأنه أداة مقاومة ضد الفرنسة. (وهذا ليس غريبا إذ أن الأدبيات عن النضال ضد الاستعمار في الهند مثلا تظهر أن القوميين الهندوس عبّروا عن موقف مشابه من المرأة وخاصة الأم كحاملة لقيم الشعب وتراثه). ثم نراه بعد ذلك في ١٣ آب ١٩٦٧ يظهر على التلفزيون وهو يخلع عن النساء الواقفات على جوانب الطريق السفساري وهو اللباس التونسي التقليدي ويشمل الحجاب. ثم تشكره النساء على تحريرهن! ولكن القانون الذي يحظر لبس الحجاب لم يسن إلا عام ١٩٨١ بعد أن تصاعد تأثير المد الإسلامي إثر الثورة الإيرانية. محاولة بورقيبة للتحديث مختلفة عن عبد الناصر، كما توضح زغال. مثلا بورقيبة قام بتهميش طبقة العلماء، وتجفيف مصادر دخلهم، وقام بإغلاق الزيتونة وإلحاق التدريس الديني بالتعليم الجامعي العام كاختصاص. في حين أن عبد الناصر أراد الإبقاء على الأزهر مع تحديثه من الداخل بإضافة مواد تعليمية غير دينية على المنهاج. الاختلاف نابع من سببين: أولا، عبد الناصر أراد الأزهر لصد الإسلاميين في الداخل، ولمواجهة السعودية في السياسة الإقليمية. ثانيا كانت أعداد الطلاب الهائلة توجب استيعابهم في الأزهر.

التاريخ التونسي يلقي بظلاله على الصياغة الحالية للدستور (١/٦/٢٠١٣). إذ أن حركة النهضة تريد من ناحية تعزيز مكانة الدين العامة، ولكنهم متخوفون على الدين من سيطرة الدولة بناء على تجربتهم المرّة منذ أيام بورقيبة. لذلك المسودة الحالية للدستور تبقي على "الإسلام دينها"، ولكنها أيضا تعلن أن تونس دولة مدنية (وهي صياغة لم تكن موجودة في المسودة السابقة ٢٠١٢ أي قبل اغتيال شكري بلعيد، وازدياد حدة التوتر بين العلمانيين والمدنيين). ويجعل الفصل السادس الدولة راعية الدين وكافلة لحرية المعتقد لكن مع الحياد السياسي لدور العبادة. طبعا في بداية المداولات حاولت النهضة أن تضيف جملة مشابهة للمادة الثانية في الدستور المصري، أي أن مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع، ولكنها رضخت لمعارضة العلمانيين. في المقابل ذكرت الحضارة الإسلامية والانتماء الإسلامي للشعب التونسي في الديباجة. وهذا أمر مقبول في العرف الدستوري إذ أن الديباجات في الغالبية الساحقة من دساتير العالم لا وزن قانونيا لها.

وبالتالي نرى أن التوانسة اختاروا منهجا توافقيا لكتابة الدستور أكثر من المصريين، ولم يستعجلوا حتى الآن في إصدار دستور، والمضمون الديني في الدستور ضئيل نسبيا.
 
الدين خارج الدستور:

سأختم بتعديد الأسباب لماذا أظن ان هذا الخيار السليم أيضا لمصر:

أولا، يجب إخراج المادة الثانية من الدستور المصري، ومن المؤسف أن النقاشات حول الدستور لم تشمل هذا الرأي ما عدا بعض الأفراد الذين لا يملكون وزنا سياسيًا والذين طالبوا بالعودة إلى دستور 1923. يجب الانتباه هنا أن هناك توجهين في النظرية الدستورية، أحدهما يعتبر أن الدستور هو حامل القيم والثقافة والتاريخ وهوية مجتمع ما، في حين أن التوجه الآخر يرى أن الدستور مجرد تنظيم لآلية الحكم أي للعملية السياسية وتقاسم السلطات. أنا لا أرى ضرورة أن يرى المصريون الدستور على النحو الأول، وحتى لو فعلوا ذلك لا حاجة لذكر القيم الدينية في الدستور بل فقط بالديباجة.

أكثر من ذلك، هناك صنمية دستورية في مصر بمعنى أنه يتم تحويل الصراعات السياسية إلى دستورية كأن مجرد إطلاق اسم دستوري على قرار سياسي سيحوله إلى فوق السياسة. فمثلا رأينا ظاهرة إصدار الإعلانات الدستورية في مصر بعد الثورة من قبل المجلس العسكري، ومن ثم من قبل الرئيس مرسي الذي عدّل فيها الإعلانات الدستورية العسكرية. ثم أصدر إعلانا عدّل فيه إعلانا سابقا أصدره هو. ثم رأينا الرئيس الحالي المؤقت عدلي منصور يصدر إعلانات دستورية مستمدة من تفويض المجلس العسكري. والحقيقة أن هذا ليس جديدا لأن ثورة الضباط الأحرار أصدرت ستة إعلانات دستورية. هذه الممارسات تتنافى مع المنطق الدستوري والممارسة الدستورية السليمة، ووفقا لها الدستور ينبع من الشعب وممثليه ويكتب في الغالب من قبل لجان تأسيسية أو لجان خبراء ثم يستفتى الشعب عليه.

وهناك من يظن أن مشكلة مصر هي عدم وجود دستور، ونسمع تكرار الأصوات التي تطالب بـ"الدستور أولا". كأن وجود دستور سيدّر على مصر بالطمأنينة والاستقرار. يتناسى هؤلاء أن دولا مثل نيوزيلندا عاشت جيدا معظم حياتها بدون مستند يدعى الدستور، وأن الثورة لم تقم بسبب الدستور.

ثانيا، في تقديري أن الإسلاميين المعتدلين (وهذا لا يشمل السلفيين) أنفسهم غير معنيين بتطبيق الشريعة. بدليل أن المجال الوحيد  الذي فيه الآن للشريعة سلطة هو مجال الأحوال الشخصية. أما القانون المدني والمعاملات التجارية وحتى القانون الجنائي فلا تأثير كبير للشريعة فيها حتى في دول مثل إيران. لقد أصبح ذكر الشريعة في الدستور مجرد تعبير شكلي عن الهوية وجزءا من سياسات الهوية، مثلما هو الأمر في العراق. حيث أدخل الأكراد الشريعة للدستور الكردستاني بعد أن عارضوها بشدة في الدستور العراقي لأغراض تكتيكية لمراضاة العرب.

ثالثا، قضية الأقليات – يجب أن نذكر أن الكنيسة القبطية عارضت بشدة بادىء الأمر مشروع الأسلمة الساداتي بما فيه المادة الثانية، ولكن السادات قمعهم عام 1972 ووضع البابا شنودة تحت الإقامة الجبرية لمدة 40 شهرا. موقف الكنيسة تغير بعد ذلك لأسباب تكتيكية من خلال التحالف مع مبارك مثلما تحالفت في السابق مع عبد الناصر. يجب أن نذكر هنا أيضا أن أسلمة حيز القانون العام بما في ذلك الدستور يضر الأقليات مرتين: مرة لأنها تقصيهم، ومرة لأنها تقوّي من المؤسسات الدينية التمثيلية في مواجهة الأفراد حتى العلمانيين في الطائفة لوجوب اعتمادهم عليها في الخدمات، وكونها الوسيط بينهم وبين الدولة. مما يعني أن إمكانية إصلاح المؤسسة الدينية يصبح أصعب.

رابعا، الدين في الدستور على شاكلة المادة الثانية يؤدي إلى استفحال الاستقطاب بين العلمانيين والمتدينين. هذا الاستقطاب قد يؤدي إلى العنف، ونحن نرى ذلك في مصر حيث يبدأ العنف الطائفي من شائعة. وقد رأينا السلفيين أكثر من مرة في العام الماضي (2012) يتظاهرون من أجل "تطبيق الشريعة".

خامسا، هذا الاستقطاب يؤدي إلى الإلهاء عن القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المهمة وتهميشها. هناك أدبيات تحاول أن تفسر لماذا يقوم الفقراء بالتصويت لأحزاب تضرهم من ناحية اقتصادية بسبب خطاب القيم المحافظة. في حالة مصر رأينا أن السلفيين فرضوا موضوع الشريعة على التعديلات الدستورية في آذار 2011 مع أن التعديلات لا علاقة لها بتاتا بموضوع الشريعة من أجل حشد التأييد لها. بالتالي يصبح النقاش غير عقلاني وغير ذي صلة وثيقة بموضوع التصويت. مثال آخر: في نيسان 2012 تم تعيين محافظ في القنا وبسبب السلفيين تحوّلت المعارضة للتعيين من كونه رجل نظام سابق إلى كونه مسيحيا. ثمّ رأينا مؤخرا في حزيران 2013 أن الفروق اختفت بين الفلول والقوى الثورية تحت شعار العداء للإخوان، ونسي الجميع إصلاح الشرطة والجيش ووزارة الداخلية والرقابة عليها.

سادسا، إحدى النظريات التي تحاول تفسير لماذا يوافق العلمانيون على مثل المادة الثانية تدّعي أن هذا يحتوي المطالب الإسلامية المتطرفة، ويجعل موضوع الدين والدولة تحت سيطرة قضاة الدولة بدلا من حكم الأكثرية. ولكن في رأيي هذا هروب من قبل الأحزاب العلمانية من ضرورة العمل في الشارع وعلى مستوى تطوير البرامج وتحقيقها. خاصة أن الأحزاب الليبرالية أو العلمانية لا ترى في العدالة الاجتماعية أكثر من مجرد شعار. وقد رأينا منذ عدة أشهر كيف لام قادة النقابات العمالية جبهة الإنقاذ على إهمالها لهم.

لذلك كله أنا أرى أنه يجب إخراج الدين من الدستور ليس لأن الإسلام والديمقراطية متناقضان فهذا نقاش عقيم نظرا لتعدد التعريفات الممكنة للإسلام وللديمقراطية بما يجعل إمكانية التناقض واردة مثلها مثل إمكانية الانسجام. وليس لأن هناك شيئا خاصا بالاسلام غير موجود في ثقافات أخرى فأنا أعتقد أن هناك قضاة في المحكمة العليا الأمريكية يتبعون منهجا مشابها إلى حد كبير المنهج السلفي في اشتقاق الأجوبة على المسائل المعاصرة، من نصوص قديمة لها مرتبة القداسة، وآخرين يشابهون المنهج التوفيقي الذي يمثله الأخوان المسلمون. ولكن السبب هو مثل هذه الانعكاسات السلبية التي ذكرتها. طبعا ليس لدي الوهم أن عدم ذكر الدين في الدستور سينهي دور الدين في السياسة إذ ان أشد الدول علمانية تواجه الأسئلة الدستورية والقانونية حول دور الدين في المجتمع، والدولة خاصة قضايا حرية الممارسة الدينية وتوافقها مع سلطة القانون. ولكن إذا كان لا بد من نص دستوري فعلى الأقل يجب على الدستور أن يكون آلية لإدارة الصراع، وليس جزءا من المشكلة.

 
الكاتب باحث سابق في مركز مدى الكرمل وحالياً محاضر في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن. المقال جزء من مداخلته في ندوة مدى الكرمل حول "الدين والسياسة في الثورات العربية" في آب 2013.
 
تم نشر المقال الأصلي في القدس العربي: https://www.alquds.co.uk/?p=70121 وفي عرب 48: https://arabs48.com/?mod=articles&ID=101587