تقرير ورشة 10-11 نيسان 2014
عقد مدى الكرمل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقيّة، يومي الخميس والجمعة 10-11 نيسان، في فندق الأمباسادور، في القدس، ورشة أكاديمية بعنوان "سياسات المعاناة: نظرة مقارنة حول الاستعمار، والقومية، والادعاءات الدينية". وقد عقدت الورشة كحلقة في سلسلة ورشات أكاديمية خاصة بمشروع "تداخل الدين بالقومية"، وهو مشروع بحثي مقارن، يقام بالتعاون مع كلية فلتشر في جامعة تافتس في بوسطن، ويسعى إلى معالجة تشابك الادعاءات الدينية بالادعاءات القومية في الصراعات السياسية، وتأثير ذلك على زيادة العنف والمعاناة الإنسانية. يدير المشروع بروفسور نديم روحانا وبروفسور نادرة شلهوب كيفوركيان.
هدفت الورشة إلى القيام بتحليل نقدي للأبعاد المعرفية والسياسية والنفسية للمعاناة في سياق الاستعمار الاستيطاني. وذلك من خلال قراءات تاريخية، سياسية، قانونية، فلسفية أو اجتماعية نفسية. حيث يرى الإطار المفاهيمي للورشة بأن التأثير الكولونيالي على المعاناة الإنسانية، لم يأخذ حقه في الأدبيات القائمة، ويرى بأن المعاناة الإنسانية تتطلب قراءة سياسية، وبأن توثيق الألم والمعاناة وتأريخهما قد يشكلان أداةً جماعية من أجل كشف الحقيقة نحو التغيير السياسي.
شارك في الورشة باحثون فلسطينيون ودوليون من صربيا، وسيرلنكا، وأستراليا؛ وستنشر الأوراق التي قدّمت في الورشة ضمن إصدار أكاديمي مشترك لمدى الكرمل وجامعة تافس في العام 2015.
افتتح الورشة البروفسور نديم روحانا، مدير عام مدى الكرمل والمحاضر في قسم المفاوضات والصراعات الدولية في كلية فلتشر، والمختص في دراسة الهوية الجمعية والمواطنة الديمقراطية والصراعات والمجتمع الإسرائيلي والمجتمع الفلسطيني، متحدثًا عن الإطار العام للمشروع، ثم قدّم محاضرة بعنوان "تشابك الادعاءات الدينية بالادعاءات القومية: نظرة مقارِنة"، تحدث روحانا فيها عن المعاناة الإنسانية في سياقات تتداخل بها الادعاءات الدينية بالادعاءات القومية، مشيرًا إلى إسرائيل كحالة خاصة في السياق الكولونيالي، ومقارنًا إياها بحالات أخرى تخللتها جرائم جماعية وأعمال غير إنسانية، مثل سيريلنكا، وصربيا، والهند.
شملت الجلسة الأولى محاضرتين: الأولى وعنوانها "المعاناة المخرسة"، قدّمتها الباحثة في علم الإنسان والمؤرخة المتخصصة بالتاريخ الشفوي روزماري صايغ، والتي تعمل، حاليا، كمحاضرة في قسم الدراسات العربية والشرق أوسطية في الجامعة الأمريكية في بيروت. وتحدثت صايغ إلى المشاركين عبر السكايب من مكتبها. وطرحت، في مداخلتها، بعض الروايات الشفوية حول المعاناة الجسدية والنفسية لنساء فلسطينيات أجبرن على العيش داخل مخيمات اللجوء في لبنان، قائلة بأن معنى النكبة لا يقتصر على أحدات عامي 1948 و49 وإنما يشمل كل ما حدث منذ ذلك الحين؛ مضيفة بأن المخيمات الفلسطينية هي "مجتمعات من الذاكرة"، أي أنها فضاءات هامة يعاد من خلالها إنتاج الهوية الفلسطينية، وملقية الضوء على السؤال الأخلاقي حول إنتاج المعرفة من خلال التواصل مع رواية السكان الأصليين، أصحاب الملكية على أرشيف ذاكرتهم، تلك الرواية التي غيّبت في كتابة التاريخ الفلسطيني الذي ركّز على القيادات والسياسات متجاهلاً تجربة الشعب.
المحاضرة الثانية في الجلسة، والتي كان عنوانها (تجريم الألم والعمل السياسي للمعاناة: حالة الـ"متسللين" الفلسطينيين)، قدّمتها البروفسور نادره شلهوب كيفوركيان، مديرة برنامج الدراسات النسوية في مدى الكرمل، والمحاضرة في كلية القانون- معهد علم الجريمة في الجامعة العبرية، وتركز شلهوب أبحاثها على العنف المبني على النوع الاجتماعي، وكذلك على جرائم الإيذاء الجسدي، والمراقبة والصدمة النفسية في سياق الاستعمار الاستيطاني. قدّمت شلهوب محاضرتها معتمدة على شهادات شفوية ممن عاصروا النكبة وهُجِّروا خلالها، والذين عادوا إليها واعتبِروا "متسللين"؛ وقدمت المحاضرة دراسة سياسية للمعاناة الإنسانية، حيث قدمت تحليلا لكيفية تحويل المعاناة الفلسطينية إلى أداة سلب استعمارية، وكيف تم نقش هذه السياسة على أجساد ونفوس الفلسطينيين العائدين إلى وطنهم (تسللاً)، حيث أشارت بأن المعاناة جراء النكبة ليست حدثًا تاريخيا فحسب، وانّما ما زالت تغذّي مصفوفة (Matrix ) العنف والاستلاب الجيوسياسية، والبيوسياسية (المتعلقة بسياسات السيطرة على الجسد)، والنيكروسياسية (المتعلقة باقتصاديات الحياة والموت) للاستيطان الاستعماري للدولة.
وقدّمت المحاضرة الأولى في الجلسة الثانية، والتي كان عنوانها: "حول الأشخاص الممكن التخلص منهم: الرؤية، والمعاناة، والعار في النظام النيكروجيوسياسي" الباحثة سوفندريني بيريرا، وهي محاضرة في النقد الثقافي في كلية الإعلام، والثقافة والفنون الإبداعية، ونائبة رئيس المعهد الأسترالي الأسيوي في جامعة كورتين في أستراليا، والمختصة في الشتات الخاص بشعب التاميل، مشيرة إلى فترة انتهاء حرب المجموعة الانفصالية لتحرير التاميل مع دولة سيريلنا التي استمرت ثلاثين عامًا، والتي انتهت بهزيمة المجموعة الانفصالية، وبأعمال وحشية وبانسحاب المجتمع الدولي، محللة السؤال المتعلق بالشهادات، وبالمعاناة، وبالمسؤولية والتخلص في سيرلنكا. وقد ادعّت الباحثة بأن مجموعة من الشروط المتعلقة بالرؤية أو الاحتجاب تحد من معرفتنا للمعاناة ولحجم المسؤولية، وتساءلت "هل الاعتراف بالمعاناة أو جعل المعاناة أو العنف مرئيين ضمن إطار حقوق الإنسان النيوليبرالي هو تطور إيجابي؟".
قدّمت المحاضرة الثانية بالجلسة، والتي كان عنوانها "اقتصاد الألم في النظريات الحديثة حول الحرب" الباحثة نادا سيكوليك، وهي باحثة ومحاضرة في قسم علم الاجتماع في جامعة بلغراد، ومتخصصة في الدراسات النسوية وفي أنثروبولوجيا الحرب. وقد قدّمت، خلال مداخلتها، معطيات ترفض الادعاء القائل بأن الحرب الحديثة ذات التقنيات المتقدمة والدقّة التكنولوجية هي أكثر أخلاقية وإنسانية، مدّعية بأن الحرب الحديثة أكثر كارثية من أي حرب في التاريخ الإنساني، ومشيرةً إلى أن عدم الحساسية للألم وللمعاناة الإنسانية تميّز، بمستويات مختلفة، بعض عقائد الحرب الحديثة، خاصة في السياق الذي تطرح فيه هذه العقائد نفسها كـ"أكثر إنسانية"، وبأنها تضرب أهدافًا عسكرية محددة فقط.
في نهاية اليوم الأول، قام المشاركون بجولة في القدس المحتلة، هدفت إلى إلقاء المزيد من الضوء على المعاناة الناتجة عن سياسات الاحتلال في القدس، والتي تعمل على تضييق الحياة على السكان، وإخلائهم من منازلهم، ومصادرة الأرض والبيوت، وإقامة مشاريع استيطانية. زار المشاركون حيّ الشيخ جراح وقرية سلوان، والتقوا بأصحاب بيوت وبنشطاء سياسيين، وقد أرشد الجولة الناشط السياسي يعقوب عودة.
استمرت أعمال الورشة في اليوم الثاني، حيث كانت المحاضرة الأولى في الجلسة الأولى بعنوان "مناطق محتلة: مصفوفة متعددة الأبعاد من المعاناة" للباحث جوزيف بوجليزي، وهو مدير البحث في قسم الإعلام، والاتصال والدراسات الثقافية في جامعة مكويري في سدني-أستراليا، ومختص بالدراسات البيوسياسية (التي تتناول العلاقة بين السياسة\الدولة والجسد)، وتناول بوجليزي مفهوم فانون للمناطق المحتلة، الذي يرى بأن نظام العلاقات الاستعمارية ينتج اقتصاديات جسدية من المعاناة، والصدمة، والحرمان، والموت للمستعمَر، ليوسع مفهوم فانون من خلال ترسيم مرصوفة متعددة الأبعاد، والتي تصوِّر المعاناة بما هو أبعد من المفهوم الجسدي لها. وقد قدّم قراءة للمعاناة في المناطق المحتلة تشمل عواملَ مقيِّدة ومعيقة للإنسان، والحيوان، وللمباني، والأرض، مموقعًا تنظيره في المناطق الفلسطينية المحتلة، وبشكل خاص في غزة، كمنطقة مراقَبة، متعرضة للتفجيرات، وواقعة تحت احتلال مستمر من قبل الطيران الإسرائيلي، مستشهدًا بشهادات الناجين من ضربات الطيران الإسرائيلي.
وكانت المحاضرة الثانية في نفس الجلسة بعنوان "فائض الموت: إعادة النظر في العرب الآن من خلال النكبة"، للدكتور إسماعيل الناشف، الباحث في علم الإنسان، والكاتب والناقد الفني، والذي تختص أبحاثه في اللغة، والايديولوجيا، والجمال. وقال الناشف، في محاضرته، بأن الكثير من المحللين والباحثين العرب قاربوا أحداث التحول في العالم العربي، من خلال ما أرادوا أن يروه "ثورة" أو "ربيع عربي" مثلا، بينما حاول هو، في مداخلته، أن يعالجها من خلال سؤالين: ماذا تعطينا تلك الأحداث؟ وكيف تقدم نفسها لنا؟ معتبراً أنها تعطينا الموت، وطريقتها بذلك هو الفائض (من الموت)، الأمر الذي يحيلنا إلى النكبة الفلسطينية كالنموذج الحديث الذي يتميز بفائض الموت في العالم العربي؛ مقترحا قراءة مجددةً للأحداث العربية الراهنة نقديًا من خلال تقييم نقديّ لكيفية معالجة مثقفين وكتاب وفنانين فلسطينيين للنكبة، هذه المعالجة قد تؤسس، برأيه، منصة لمعالجة نقدية للتحوّلات الحالية في العالم العربي وفائض الموت داخله.
وكانت المحاضرة الأولى في الجلسة الثانية بعنوان "مكان إسرائيل في آسيا: المستوطن، والأصلي، والبدوي، والتمزق"، وقدمتها طالبة الدكتوراة سارة الحمود، نيابة عن الباحث د. مجيد شحادة، المحاضر في جامعة كاليفورنيا-ديفس، والمختص في بحث الحداثة، والعنف، والهوية، وكذلك في أنثروبولوجيا وسياسة المعرفة. والذي تناول، في ورقته، معنى مكان إسرائيل في آسيا، كدولة وكقيادة ترى نفسها أوروبية وغربية، وتُرى كذلك من قبل القيادات والمجتمعات الغربية، وتسوِّق مشروعها الاستعماري من خلال قيادتها الصهيونية كجبهة غربية في وجه "التخلف غير الديمقراطي" الشرقي الآسيوي. يموقع الباحث بحثه ضمن سياق العنصر، والاستعمار ، والاستيطان الاستعماري، والحداثة.
وأما المحاضرة الأخيرة، والتي كانت بعنوان "الصدمة الناتجة عن حرب الأيام الثمانية، ما بعد الصدمة، القلق وصمود الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة"، فقدّمتها الدكتورة خلود الدجاني من جامعة القدس المفتوحة، نيابةً عن د. عبد العزيز ثابت، المحاضر في الطفولة في قسم الطب النفسي في كلية الصحة الجماهيرية في جامعة القدس – فرع غزة، ود. سناء ثابت، مديرة مركز غزة للطفل والتدريب والإرشاد الأسري في غزة. وذلك لتعذّر قدومهما من قطاع غزة المحتل. وقد عرضت المحاضرة نتائج بحث عالج تأثير الأحداث الصادمة خلال حرب الأيّام الثمانية، التي قامت بها إسرائيل على قطاع غزة في نهاية العام 2009. والذي شمل 502 من الأطفال، من 16 منطقة مختلفة في قطاع غزة. وأشار البحث، ضمن نتائجه، إلى أن 65.7% من الأطفال المستطلَعين أجابوا بأنهم لم يشعروا بالأمان في بيوتهم خلال أيام الحرب، وبأن 71.3 % منهم لم يستطيعوا حماية أنفسهم. وقد أشار المستطلَعون إلى سبعة حوادث صادمة خلال الحرب، وأكثرها كان سماع اصوات الطائرات بدون طيار (98.8% منهم)، وقد ظهر عند 35.9% منهم عوارض كاملة لآثار ما بعد الصدمة، بينما يعاني 30.9% من الأطفال من عوارض القلق. يخلص البحث إلى أن الحرب كانت حدثاً مدمرًا، حيث كان الأطفال أكثر الشرائح عرضةً له، مما أضعف قدرتهم على الصمود.
وفي الجلسة التلخيصية، أشار المشاركون إلى أهمية تطوير الأوراق المقدمة في الورشة من أجل إصدار أكاديمي حول سياسات المعاناة في السياق الاستعماري؛ وقدّم المشاركون بعض الاقتراحات منها مثلا، وفي أعقاب سماعهم عن الهدم وسياسات الاحتلال في القدس خاصة، إصدار كتاب حول سياسات الهدم والقانون، بحيث يشمل تنظيراً معرفيًا ونفسيًا للهدم، تمت الإشارة أيضا إلى أهمية التعلم من تجارب غيرنا، ودراسة كيف أعدنا إنتاج علاقة السيد والعبد في واقعنا الكولونيالي، وتمت الإشارة أيضا إلى ضرورة تطوير البحث في الصهيوينة كمشروع كولونيالي وقومي، جاء في مرحلة متأخرة عن باقي المشاريع الكولونيالية في العالم.
في نهاية الورشة، شكرت بروفسور نادرة شلهوب المشاركين والمساهمين في إنجاح الورشة رغم التحديات التي مرت بها، مشيرةً إلى أن إقامة الورشة عادت علينا بالكثير من التعلّم، ومضيفةً بأن إقامتها في القدس كانت مهمة، كون القدس رمزاً للكثير من الصراعات، وبسبب واقعها تحت الاحتلال.