خليل دهابشة:
- نسبة التصويت في النقب الأقل انخفاضا وفي القرى غير المعترف بها 25% فقط
- دالة الهبوط بدأت منذ 2009 ووصلت ذروتها في الانتخابات الأخيرة إلى 37.5%
- هيمنة اليمين وتآكل “اليسار” عمّقا من حالة إقصاء وتهميش العرب ومناطقهم
- فشل شعار “صوتك يحمي بيتك” دفع الناس للاستنكاف عن التصويت
ﺑﻠﻐﺖ ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺘﺼﻮﻳﺖ ﻟﻠﻜﻨﻴﺴﺖ في انتخابات نيسان/ أبريل الماضي 37.5% بين أوﺳﺎط العرب في النقب، بينما انخفضت تلك النسبة إلى 25.5% فقط في القرى مسلوبة الاعتراف، وهي النسبة الأدنى بين الشرائح السكانية على الإطلاق، علما بأنّ نسبة التصويت بين عموم الفلسطينيين في إسرائيل بلغت نحو 50%.
ولا يعبر تراجع نسبة التصويت بين عرب النقب عن “إشكاليات تنظيمية أو احتجاج احترازي على الأطر التي تمثل هذه الفئة”، بحسب دراسة جديدة لـ”مدى الكرمل”، “بقدر ما يعكس حالة رائجة وقناعة راسخة لدى أصحاب حق الاقتراع على محدودية قدرتهم وقدرة ممثليهم على التأثير الفاعل والانتفاع المحقق من البرلمان بهيئته الحالية، وحالة من الخذلان تبلغ حد التشكيك في قدرة التمثيل العربي على إصلاح حال المجتمع العربي على وجه العموم وفي النقب خصوصًا، في القضايا الأساس وهي الأرض والاعتراف”، بالتوازي مع تحريض المؤسسة الحاكمة على الأحزاب العربية البرلمانية بأنها لا تهتم بقضايا الفلسطينيين في إسرائيل الحياتية، وإنما بالقضية الفلسطينية، وهو ما انعكس سلبًا على ثقة الناخب بالأحزاب العربية.
هذا إضافة إلى أنّ البرلمانيين العرب لم يحققوا، بنظر ناخبين، في القضايا المطلبية العينية لناخبيهم إنجازات آنية ومنافع ملموسة ظاهرة للعيان يتطلعون إليها، ما ساهم في تسارع وتيرة التساؤلات بشأن جدوى العمل البرلماني.
هذا ما ورد في ورقة تقدير موقف صدرت عن “مدى الكرمل” – المركز العربي للدراسات الاجتماعية والتطبيقيّة، صاغها ابن النقب خليل دهابشة وهو أكاديمي وناشط، عالجت خصوصية النقب وأسباب تدني نسبة التصويت بين صفوف أبنائه إلى ما تحت المعدل العام للعرب داخل الخطّ الأخضر، المنخفض أصلًا.
حول الورقة ودواعي الاستنكاف عن التصويت في النقب بشكل خاص، التي ميزت الانتخابات الفائتة وإمكانيّات ازدياد نسبة التصويت في ظل إعادة تشكيل القائمة المشتركة، كان هذا الحوار مع خليل دهابشة.
عرب 48: النقب جزء أصيل من هذا الوطن وشعبه، ولذلك من غير المستغرب أن تتأثر نسبة التصويت فيه بالمؤثرات العامة المرتبطة بالسياسة الإسرائيلية، وبالعوامل الذاتية المتعلقة بخيبة الأمل من المشتركة والغضب على تفكيكها وغير ذلك، ولكن تدني النسبة إلى هذا الحد ربما يشير إلى خصوصية معينة، إذا أدركنا أنّ هذه النسبة انخفضت في القرى غير المعترف بها إلى 25.5% فقط؟
دهابشة: نسبة التصويت في النقب كما هو حال المجتمع الفلسطيني في إسرائيل بدأت في الانخفاض منذ سنوات الألفين، وتحديدًا بالتزامن مع انتفاضة الأقصى وما تركته من آثار على ساحة الداخل، ووصلت هذا النسبة أدنى معدلاتها في النقب عام 2009، حيث بلغت 35.8% ثم عادت وارتفعت إلى ما يقارب الـ50% في انتخابات 2015، بفعل تشكيل القائمة المشتركة وعادت لتستقر عند حالها السابق بعد تفكيكها، ولا نستطيع التنبؤ إذا ما كانت ستعود إلى ما كانت عليه في الـ2015، بعد إعادة تشكيل المشتركة في هذه الانتخابات.
طبعا، تقف عوامل الإقصاء والتهميش في مركز الأسباب التي أدت إلى هذا الانخفاض، خاصّة في ظل هيمنة اليمين على الحياة السياسية في إسرائيل. وبطبيعة الحال، فإنّ النقب يعاني أكثر من غيره من التجمعات العربية من حالة الإقصاء والتهميش ونزع الشرعية، كون ما يقارب الـ50% من سكانه العرب يعيشون في قرى مسلوبة الاعتراف، وهذا ما يفسّر نسبة المشاركة الأكثر انخفاضا في المجتمع العربي.
عرب 48: تقصد أن عرب النقب، بالذات، يشعرون أكثر من غيرهم أنّهم غير شركاء في اللعبة الانتخابية كونها لا تأخذهم بعين الاعتبار؟
دهابشة: في الآونة الأخيرة وفي ظل هيمنة اليمين من جهة، وعدم انسجام خطاب الأحزاب العربية مع خطاب المعارضة السياسية الإسرائيلية التي تسعى إلى السلطة من جهة أخرى، وَضَعَها (أي الأحزاب) في خانة المتفرّج على اللعبة السياسية وفي حالة دفاع مستمر حول جدوى دورها في التصدي لمعسكر اليمين.
وفي النهاية، فإنّ عدم الاشتراك في صنع اللعبة السياسية وعدم القدرة على تحديد معالمها وقواعدها خلقا واقعا جديدا وسؤالا ملحا حول العمل البرلماني العربي، خاصة بعد تجربة القائمة المشتركة التي كانت الكتلة الثالثة في الكنيست، ولم تستطع، بالرغم من ذلك، لجم الانفلات اليميني على العرب وحقوقهم وتمرير القوانين الإثنية التي رسّخت يهودية الدولة وفي مقدمتها “قانون القوميّة”.
ما أردت أن أقوله إنّ قدرة الأحزاب العربية على إقناع الناس على الخروج للتصويت قد تقلصت، خاصّة وأنّ المسألة أصبحت أبعد من تشكيل أو عدم تشكيل قائمة مشتركة.
عرب 48: نحن نعرف أنّ النقب مرّ بمراحل مختلفة بالانتقال من القيادة العشائرية التقليدية المرتبطة بأحزاب السلطة والتي قادها الشيخ حماد أبو ربيعة في السبعينيّات والثمانينيّات، مرورا بالمرحلة الانتقالية التي برز فيها عضو الكنيست طلب الصانع وصولًا إلى التعددية السياسية التي تأخذ فيها الأحزاب دورًا محوريًا؟
دهابشة: القضية مركّبة جدًا، فالوضع الذي ساد في السبعينات والثمانينات وحتى في أيام الحكم العسكري اعتمد على ولاءات قبلية، بمعنى وجود قيادة تقليدية للمجتمع هي مؤسسة المشيخة التي تزعمها في فترتها الأخيرة الشيخ حماد أبو ربيعة، الذي كان بمثابة شيخ المشايخ، والتصويت خلالها كان لحزب “مباي” واستمراره التاريخي، أي العمل أو للقوائم العربية المرتبطة بهما.
عرب 48: التصويت كان تعبيرا عن الولاء؟
دهابشة: أيام الحكم العسكري، تحديدًا، كان النقب مسلوخا عن باقي أجزاء الوطن ويفتقر إلى نخب مثقفة، والمشيخة كانت ليست فقط سلطة اجتماعية، بل هي سلطة معتمدة من قبل المؤسسة والمشايخ هم بمثابة وسطاء بين المواطن والمؤسسة.
الشيخ في الستينيّات والسبعينيّات كان هو ممثل السلطة أمام المواطنين وممثل المواطنين أمام السلطة، وإن كان لا يمثل رغبة المواطنين بل رغبات المجموعة المتنفذة. وقد منح الحكم العسكري امتيازات للمشايخ لتثبيت سلطتهم، فالشيخ يستطيع الدخول إلى الحاكم العسكري دون أن يمر عن طريق السكرتيرة، ويستطيع توفير بعض الحلول الفورية للمواطنين، مثل الحصول على تصاريح لمراعي المواشي وتحرير المواشي التي يتم مصادرتها، والحصول على تصاريح للرعي في مناطق عسكرية، وهي بمجموعها مصالح حيوية للمواطنين يدفعون ثمنها بالولاء للشيخ الذي يشكل بدوره جزءًا من الولاء للسلطة.
ولكن بنظرة إلى مبنى مؤسسة المشيخة التي تقوم على ما يسمى بـ”الربع”، حتى لو تجاوز العدد الأربعة أرباع إلى خمسة أو ستة وأكثر، وهم وجهاء لعائلاتهم يجتمعون مع الشيخ ويتّخذون قرارات مشتركة، نجد أنه في كثير من الأحيان، القرارات تتخذ بشكل ديمقراطي وفي كثير من الأحيان تفرض على الشيخ، رغم أن المبنى عشائري وغير ديمقراطي.
عرب 48: المؤسسة فهمت السلطة التي تتمتع بها هذه المنظومة ووظفتها لصالحها؟
دهابشة: هذه المنظومة كانت بحاجة للسلطة لبقاء سلطتها والسلطة كانت بحاجة إليها لفرض سيادتها ونفوذها، ولذلك منحتها بعض الصلاحية وكسبت بالمقابل ولاءها وولاء المواطنين التابعين لها، وهو ولاء تعدى المؤسسة إلى الحزب الحاكم.
المشيخة التقليدية فقدت نفوذها بعد وفاة الشيخ حماد أبو ربيعة ونشوء بلدات جديدة، حيث سبق ذلك سقوط حزب السلطة مباي- العمل من سدة الحكم. ودخول أحزاب جديدة إلى ساحة النقب، أبرزها الليكود عن طريق موشيه أرنس و”ياحد” الذي أسسه عيزير فايتسمان.
فقد تنبه أرنس إلى التركيبة الديمغرافية للنقب التي تتألف من العشائر التي حافظت على مكانتها ووضعيتها لأنها لم تهجر، ومن عشائر فقدت سلطتها وهيبتها وقوتها بسبب التهجير وعاشت في كنف العشائر الباقية وأصبحت تابعة وموالية لها.
أرنس منح العشائر المضطهدة صفة المشيخة وصلاحياتها، مقابل تصويتها وولائها لليكود. وكسر، من حيث لا يدري، مبنى مؤسسة المشيخة التقليدية؛ في المقابل، دخلت قيادة شابة مثل النائب السابق طلب الصانع عن طريق الحزب الديمقراطي العربي، بعد الانتفاضة الأولى، ثم الحركة الإسلامية لاحقا، حيث حصلت القائمة العربية الموحدة التي ضمت الطرفين في انتخابات 1996 على 71% من أصوات الناخبين في النقب، وحلت بذلك الأحزاب العربية محل أحزاب السلطة والقوائم التابعة لها، بعد تفكك مؤسسة المشيخة التقليدية المرتبطة بها.
عرب 48: ولماذا هذا التراجع في قوة الأحزاب العربية وفي نسبة المصوتين للكنيست عموما؟
دهابشة: هناك الكثير من الأسباب التي أتيتُ على ذكرها في الورقة (المشار إليها في المقدّمة)، ولكن أهمها أن النواب العرب أنفسهم يعترفون بمحدودية قدرتهم على التمثيل في القضية الملتهبة، قضية هدم البيوت، هم غير قادرين على تحقيق إنجاز في وقف أو تقليص الهدم، بل بالعكس، فبعد أن رفعوا شعار “صوتك يحمي بيتك” ازدادت وتيرة الهدم، وفي عام 2018 عندما كانت القائمة المشتركة القوة الثالثة في الكنيست، تم هدم 2026 بيتا.
يبدو أن هيمنة اليمين مقابل تآكل “اليسار” أو ما كان يعرف بمعسكر السلام، جعل أعضاء الكنيست العرب بمثابة لاعب معطّل في اللعبة البرلمانية وقلّص من حدود دورهم وتأثيرهم في هذا الملعب، وهو أمر يبدو أنه ترك تأثيره على النقب أكثر من غيره.
خليل دهابشة: أكاديمي من النقب، مواليد قرية الفرعة مسلوبة الاعتراف
لقراءة الورقة كاملة: https://bit.ly/2lT82PL