د. مهند مصطفى:

* إنهاء الانقسام وترسيخ الوحدة الوطنية وإعادة المركزية لمنظمة التحرير

* إعادة بناء مشروع وطني لعموم الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات

* ربط العداء للصهيونية باللاسامية هو انتزاع للقوة الأخلاقية من خطابنا


أعلنت السلطة الفلسطينية وقفها التعامل باتفاق أوسلو وما يترتب عليه من تنسيق أمني، وذلك بعد نحو 25 عامًا من رهانها على المفاوضات برعاية أميركية، لم تشفع للقائد الفلسطيني ياسر عرفات الذي انتهى به الحال محاصرًا عسكريًا وسياسيًا في المقاطعة خلال الانتفاضة الثانية، وصولا إلى استشهاده.

وعلى مدى عقدين من الزمن، تحمل محمود عباس غطرسة شارون وصلافة أولمرت وغرور نتنياهو، إلى جانب غدر كلينتون وعنجهية بوش وتردد أوباما، حتى صدمته “صفقة القرن” التي أطلقها ترامب، وشكلت صفعة مدوية أسقطت آخر أوهامه، بعد أن كشفت عن الوجه الحقيقي لأميركا ومشروعها في المنطقة.

بات واضحًا، أن ما راهن عليه الرئيس الفلسطيني، عباس، والعديد من أركان سلطته خلال السنوات الماضية، لم يكن سوى وهم وسراب، فلا دولة مستقلة قامت أو ستقوم، ولا حقوق اللاجئين عادت أو أنها ستعود، بل ترسيخ لواقع الكانتونات التي خلقها أوسلو في الضفة من دون القدس ومن دون الأغوار، و”دويلة” ناقصة تحدها إسرائيل من جميع الجهات وتسيطر على سمائها وبرها وبحرها.

بعد 20 سنة أخرى، وجد محمود عباس نفسه في ذات الوضع الذي وجد فيه عرفات عقب أوسلو بسنوات قليلة، رغم الثمن الذي دفعه وقاد الفلسطينيين إلى انقسام سياسي وجغرافي فلسطيني، وإلى تقويض أركان مشروع التحرر الوطني.

لإلقاء المزيد من الضوء على الوضع الفلسطيني والتحديات والخيارات الوطنية التي تفرضها صفقة القرن، كان هذا الحوار مع د. مهند مصطفى، الباحث في العلوم السياسية ومدير مركز “مدى الكرمل”:

عرب 48: يبدو أن صفقة القرن وضعت حدًا لمرحلة، هي مرحلة الرهان على التسوية السياسية برعاية أميركية، وبنيت على أساسها إستراتيجيات وأدوات تتناسب مع طبيعتها، بعد أن جرى التخلص من الإستراتيجيات والأدوات السابقة؟

مصطفى: صفقة القرن تضع القضية الفلسطينية على مفترق طرق ليس في علاقة الفلسطينيين مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة الأميركية ومع كل قضايا العالم الأخرى فحسب، وإنما تضع سؤالا مهما أمام طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني. بمعنى أن صفقة القرن جاءت لتقول إن هناك حاجة لإعادة التفكير في السياسات الفلسطينية التي تم انتهاجها في السنوات الأخيرة، وجرى خلالها الرهان على السياسة الأميركية، وأدت في النهاية إلى إضعاف البيت الداخلي الفلسطيني وإضعاف الوحدة الوطنية الفلسطينية، ووضع المشروع الوطني الفلسطيني رهنًا لميزان القوى الإقليمي والدولي، ما يعني أن تلك السياسات خاطرت بالمشروع الوطني الفلسطيني وأخضعته لتقلبات ميزان القوى، والتحولات الداخلية والخارجية في الأنظمة وتحالفاتها الدولية.

وربما الشيء الملفت في التعامل مع صفقة القرن والمنظومة الدولية الراهنة عمومًا، هو حدوث ما يشبه الكسر في الدبلوماسية التقليدية السائدة، التي كانت عادةً تبقى على حالها بغض النظر عن تغير الأنظمة المرتبط بتداول السلطة، وحدوث تحول جوهري سريع يترافق مع هذا التغيير الروتيني.

أي أن الدول في أوروبا وأميركا الجنوبية وحتى في الولايات المتحدة الأميركية، حافظت على نوع من الثبات في رؤيتها ومنظومتها السياسية حتى مع تغير النظام السياسي والحزب الذي يحكم الدولة.

الآن يحصل تغير كبير على مستوى العلاقات الدولية، يتمثل في أن تغير النظام يؤدي إلى تغيير راديكالي في نظرة الدولة ذات العلاقة الى القضية الفلسطينية، وكيفية التعاطي معها ومع القرارات والمعاهدات الدولية المرتبطة بها.

هذا الشيء حدث في حالات أخرى وحدث في حالة ترامب في الولايات المتحدة، والفلسطينيون لم ينتبهوا إليه، وظلوا يراهنون بشكل أساسي على السياسة الدولية بالرغم من هذه التحولات.

عرب 48: ربما أن التغيير هو أكثر من مجرد تغير حزب حاكم، بل يرتبط بصعود نهج أيديولوجي يتبنى سياسات مختلفة، كما هو صعود اليمين في أوروبا وأميركا؟

د. مهند مصطفى

مصطفى: نعم هذا ما أقصده، التغييرات التي تحدث في أوروبا وأميركا من صعود اليمين الشعبوي واليمين المتطرف، تغير نظرة هذه الدول وسياساتها تجاه القضية الفلسطينية، كما التضامن الكبير الذي تحظى به إسرائيل لدى هذه القوى، يؤكد أن عوامل أيديولوجية هي التي تقف في محور مواقفه تجاه الموضوع الفلسطيني، وليست عوامل ذات طابع مصلحي إستراتيجي. وأقصد عوامل أيديولوجية تنبع من كراهية هذا اليمين لكل ما هو عربي ومسلم من جهة، ومحاولة تطهير نفسه من فكرة العداء للسامية من جهة أخرى.

ومن الجدير أن نلاحظ أنه رغم مرور أيام على الإعلان عن صفقة القرن، لا نرى أو نسمع عن موقف دولي رافض لها على الأقل على المستوى التصريحي، وذلك رغم انتهاكها لحقوق الشعب الفلسطيني وقرارات الشرعية الدولية، وأنا أقصد بالذات أوروبا وروسيا.

ويبدو وكأن العالم استسلم لفكرة أن هذا ما يجب أن يكون، وهذا ما يمكن إنجازه، وهذا يجب أن يضيء أكثر من ضوء أحمر لدى الفلسطينيين، والسؤال المهم هل سيواصلون الرهان على ضغط دولي على إسرائيل لكي تعترف بحقوقهم بعد ثبات فشل هذا الرهان.

عرب 48: صفقة القرن تعني سقوط الرهان على التسوية السياسية عمومًا، والتسوية برعاية أميركية بشكل خاص، فما هي الخيارات المطروحة أمام الفلسطينيين اليوم؟

مصطفى: على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تراهن على نفسها، وعندما نقول يجب إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، فإن هذا الكلام لم يعد إنشائيا فقط، بل ضرورة قصوى حتى لا تصفي القضية الفلسطينية ذاتها بذاتها.

فإذا ما لم يتم إعادة وحدة الصف الفلسطيني وإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، وبناء مشروع وطني فلسطيني واضح تتكاتف عليه كل التيارات السياسية الفلسطينية في الوطن والشتات، فهذا يعني أن الفلسطينيين يعلنون أنهم مع صفقة القرن التي تبتغي تصفية قضيتهم.

إذا ما أراد الفلسطينيون الحفاظ على وجودهم في المرحلة القادمة، لا بد من إعادة الصف الفلسطيني إلى وحدته المعهودة.

أما بالنسبة لترامب، فتجدر الملاحظة أنه فشل خلال فترة رئاسته في كل المشاريع التي طرحها إلا في الموضوع الفلسطيني. فقد فشل مع الصين ومع كوريا الشمالية وفي علاقته مع الاتحاد الأوروبي، وفي علاقته مع أميركا الجنوبية وحتى في الشرق الأوسط، عندما وعد بعدم التدخل وتدخل فقط في ما يصب لصالح إسرائيل، إلا في الموضوع الفلسطيني حيث كسر تدخله كل قواعد الدبلوماسية الأميركية المتعارف عليها، والتي كانت تراعي بشكل أو بآخر مرتكزات القانون الدولي، وكان تدخله مثابرا منذ توليه لمنصبه وحتى الآن على تصفية القضية الفلسطينية، وهذا يوضح أنه أو المحيطين به قادمون من إطار أيديولوجي ديني.

كذلك يبدو بوضوح أن الصفقة كتبت بأيد إسرائيلية، وهذا يبدو بوضوح من ذكر القرى العربية المرشحة للضم للسلطة الفلسطينية، الصغيرة منها والكبيرة بالاسم.

عرب 48: واضح أن الرؤوس التي صاغت الخطة هم أميركيون يهود متدينون، وأنهم استعانوا من دون شك بإسرائيليين؟

مصطفى: من دون شك، كذلك يمكن ملاحظة أن الخطة تدمج في طياتها مركبات من برامج مختلف الأحزاب الصهيونية، فقد أخذت التبادل السكاني من “يسرائيل بيتينو”، وفرض السيادة على جميع المستوطنات من “اليمين الاستيطاني”، وفرض السيادة على الأغوار وضم الكتل الاستيطانية من اليسار الصهيوني الذي تمثل بحزب العمل، إلى جانب موقف اليمين الإسرائيلي التقليدي المتمثل بالليكود والمتعلق بضم الكتل الاستيطانية وسحب السيادة على المستوطنات.

فهي جمعت كل تلك المركبات وراعت الإجماع الإسرائيلي، لتحظى على ما يبدو بتأييد كل تلك المركبات وبأوسع إجماع إسرائيلي، رغم بعض الخلافات التقنية المتعلقة بالتوقيت وكيفية التطبيق.

عرب 48: هناك ادعاء بأن الخطة جاءت لتخدم نتنياهو وليس إسرائيل؟

مصطفى: من الواضح أن من كتب الخطة وصاغها وأخرجها هم يهود صهاينة يضعون أولا مصلحة إسرائيل نصب أعينهم، ولكن توقيت الإعلان عن الخطة جاء ليخدم نتنياهو، مثلما جاء الإعلان الأميركي عن مباركة ضم الجولان ليخدمه في الانتخابات الأولى، وقبله نقل السفارة والإعلان عن القدس عاصمةً لإسرائيل.

عرب 48: الخطة تمس من دون شك بكل الشعب الفلسطيني ولكنها تشكل صفعة لما يسمى بنهج أوسلو الذي راهن على المفاوضات برعاية أميركية؟

مصطفى: المشكلة أن هذا النهج الذي راهن على السياسة الدولية من أجل فرض حل على إسرائيل يلبي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، تكاسل على المستوى الدولي وترك الساحة لإسرائيل، وهي مفارقة، بأنك تضع كل رهانك على الساحة الدولية وتغيب في الوقت ذاته عن تلك الساحة وتتركها لإسرائيل.

فقد كانت السلطة غائبة في كل الساحات الدولية الممتدة من الهند الصينية إلى أوروبا مرورًا بأميركا الجنوبية وآسيا، ولا تمتلك أي إستراتيجية أو موقف واضح من كل الحراك الدولي ضد إسرائيل، ومن حراك المقاطعة والحرب المضادة التي شنتها إسرائيل ضدها، بمعنى أن من راهن على السياسة الدولية لم يطور أدوات صراع في هذا المجال.

عرب 48: أنت تقول أن السلطة التي حلت محل المنظمة كسرت أدوات العمل والنضال القديمة، التي تمثلت بالمقاومة والوحدة الوطنية الفلسطينية، ولم تطور أدوات جديدة تتناسب مع إستراتيجيتها أو إستراتيجية تتناسب مع موقفها؟

مصطفى: نعم، الفلسطينيون كسروا أدوات حركة التحرر الوطني ولكنهم لم يتقنوا تطوير وممارسة أدوات الدولة، وهكذا خسروا العالمين.

فعندما كانوا يتصرفون كحركة تحرر وطني كان تأثيرهم ونفوذهم الدولي أوسع بكثير، إضافة إلى أن إسرائيل كانت تدفع ثمن احتلالها أكثر بكثير مما هو عليه الحال اليوم.

لقد كانت إسرائيل تدفع ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا ودوليًا، ولكن الفلسطينيين تركوا مواقع حركة التحرر الوطني دون أن يمارسوا بكفاءة الأدوات السياسية والدبلوماسية الجديدة.

هذا إضافة إلى أن الفلسطينيين لم يرصدوا التحولات الدولية التي حدثت في السنوات الأخيرة، وتركوا الساحة لإسرائيل لكي تحتل تلك المواقع، ورأينا كيف أن الكثير من الدول التي كانت تساند الحقوق الفلسطينية تراجعت أو صمتت ووقفت على الحياد.

عرب 48: اليوم تقول السلطة الفلسطينية إنها ستفك ارتباطها باتفاق أوسلو، فما هي الخيارات الفلسطينية الواردة؟

عرب 48: لقد بات هذا التهديد ممجوجًا، فكم من مرة هددت السلطة بفك الارتباط مع أوسلو ووقف التنسيق الأمني ولم تنفذ تهديدها، وكم من اجتماع اتفاق عقد واتفاق أبرم لإعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية وبقي حبرًا على ورق.

ولذلك على السلطة الآن اتخاذ موقفا جديا وصادقا وحقيقيا، وليس مجرد كلام، ويجب أن تقرر بين أن تكون بلدية كبيرة أو أنها تريد اتخاذ خطوات عملية نحو معاقبة إسرائيل على المستوى الدولي وتحدي أميركا، وإعادة الالتفاف الدولي حولها وهذه مهمة صعبة جدًا ولكنها ممكنة.

وإذا أرادت ذلك، فعليها أن تدرك أن ما يمكن أن يقف أمام هذه الصفقة التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، هو إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء الانقسام بشكل حقيقي، وإعادة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفك الارتباط عن أوسلو بما في ذلك وقف النسيق الأمني بشكل حقيقي، وتكريس الجهود من أجل إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.

عرب 48: هل يعني ذلك حل السلطة؟

مصطفى: برأيي أن ما تم تحقيقه من أوسلو لصالح الشعب الفلسطيني يجب أن يبقى، ويتم البناء عليه لمواصلة المشوار الكفاحي، بما في ذلك السلطة التي يجب تغيير وظائفها وفك الارتباط عن أوسلو.

وإضافة إلى تداعيات صفقة القرن، وما يجري على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة من قضم الأرض وتغول الاستيطان، فإن ما يجري على الساحة الدولية ويترجم بتشريعات في ألمانيا وفرنسا وغيرهما، من محاولات لربط مقاومة الصهيونية ومقاطعة إسرائيل بالعداء للسامية وبالتالي تجريم النضال الفلسطيني، هو أمر خطير يستهدف انتزاع ما تبقى لنا، وهي القوة الأخلاقية المتمثلة بعدالة قضيتنا والنابعة من كون إسرائيل قوة استعمارية كولونيالية.


د. مهند مصطفى، مدير عام مدى الكرمل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، محاضر مشارك في الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي في الكلية.