ضمن سلسلة محاضرات “السياسة في زمن الكورونا” التي أطلقها مركز مدى الكرمل، ألقى الباحث خالد عنبتاوي، طالب الدكتوراه في معهد جنيف للدراسات العليا، محاضرته بإشارته إلى هدفه بإعادة تحليل كتابيّ زيجموند باومان الخوف السائل والحبّ السائل من خلال عدسة الكورونا، بالإضافة إلى قراءة وتحليل ملامح ومشاهد من زمن الكورونا من خلال الأفكار التي طرحها باومان. يشير عنبتاوي أنّ هذين الكتابين هما جزء من سلسلة كتب سائلة لباومان انطلقت كلّها من فكرة نقد ما بعد حداثيّ (رغم أن باومان يفضّل تسميتها بالحداثة السائلة)، وهو نقد ينطلق من سياق الحداثة نفسها، مسائلًا إياها لا معاديًا لها. مبيّنًا أنّ الدّولة الحديثة، وضعت هدفًا بالسّيطرة على الطبيعة من خلال التكنولوجيا من أجل تحقيق السعادة والسّيطرة على الخوف الصّلب (أيّ الموت)، إلّا أنّ هذا الوعد لم يتحقّق. وهو يطرح العديد من الأسئلة، منها ما يجيب عنها في المحاضرة، ومنها ما يتركها معلّقة لنتفكّر بها، هي: ما الفرق بين الحداثة السائلة والصلبة؟ الخوف الصلب والخوف السائل؟ كيف سيكون نوع وشكل حياتنا بعد الكورونا؟ كيف تطرح الكورونا أسئلة حول خوفنا وحول علاقاتنا الإنسانيّة قبل وبعد الأزمة؟ هل يمكن أن نكون قد أذنبنا بمسألة الكارثة؟ أم هي قدر بشريّ بحت؟
يشرح عنبتاوي أنّ الخوف برؤية باومان في عصر الحداثة السائلة تحوّل، في مرحلة ما، إلى خوف مجزّأ في مشاهد الحياة المتعدّدة وتفاصيلها، خوف متكرّر في كثير من أجزاء حياتنا اليوميّة: اقتصاديًّا، عاطفيًّا، أمنيًّا، سياسيًّا، اجتماعيًّا وغيرها، وهو خوف سائل من الصعب معرفة كيفيّة إدارته أو ضبطه تمامًا. لكنّ باومان يرى أنّ هذا الخوف مرتبط بطريقة تعامل الدولة الحديثة مع فكرة الخوف الصلب من الموت، حيث حوّلت فكرة الموت إلى فكرة مفككة ومجزّئة من أجل مواجهة أجزاءها. مع الوقت تغلغل هذا التفكيك إلى تفاصيل حياتنا، خاصّة مع انسحاب الدولة من أدوار عدّة في حياة الناس ودخول السوق مكانها. بالتالي، عزّز ذلك من محاولات البحث السّريع والسّهل عن الحلول الآنية المؤقّتة غير المستدامة، نتيجة لانسحاب الدولة الحديثة من مهمّة حماية الناس، وامتناعها عن إعطاء ضمان اجتماعيّ أو اقتصاديّ، ممّا أدّى إلى أن يحلّ السوق، نظام السوق وقوانين السوق محلّ الدّولة، فنتج عن ذلك وسواس إقصاء، أو شبح إقصاء يهدّد وجودنا، ممّا شكّل حالة تسمّى برمال متحرّكة من اللا يقين.
ساهم النظام الاقتصاديّ الليبراليّ الجديد في تعزيز الهوس للحلول السريعة، كما وساهم الخوف السّائل في إضعاف تعاطفنا تجاه البشر الآخرين من أجل كسب شعور الأمان كما نرى اليوم في زمن الكورونا. أضاف عنبتاوي أنّ باومان ينبّهنا إلى إمكانية تحوّل سعي الإنسان للسيطرة على الطبيعة إلى سيطرة الإنسان على الإنسان كذلك، ففي مرحلة ما تحوّلت الآلات والأدوات البيروقراطيّة والعقلانيّة إلى غايات بحدّ ذاتها. يستشهد عنبتاوي بظاهرة المحرقة لتبيين ذلك، وكيفيّة التعامل مع ارتكاب الجرائم تحت شعار البيروقراطيّة كأمر طبيعيّ بالنسبة لمرتكبيه، حيث تمّ تحييد الجانب الأخلاقيّ الفرديّ في العمل البيروقراطيّ في سبيل ملء كلّ شخص لوظيفته وتنفيذها.
تطرّق عنبتاوي أيضًا إلى رؤية باومان لانتقائيّة نظام العولمة الجديد، واختياره لمن عليه أن يُسعد من خلال منطق الاحتكار وتوسيع الفجوات بين الطبقات والبشر. الكورونا على سبيل المثال، ككارثة طبيعيّة لا يد لنا بظهورها كما يبدو، سَاوَت بين الجميع من حيث احتمال الإصابة بها، لكنّها لم تساوي بينهم تمامًا في تبعات حلولها ككارثة على المجتمع، حيث تكون كارثيّتها على جماعة ما أكبر من غيرها. كما وربط شعور الثّقة لدى الناس بالسلطة، منظمة الصحة العالميّة وشركات رؤوس الأموال بهوسهم بإيجاد الأمان، وتجمّع الخوف السائل للحياة اليوميّة مع الخوف الصلب من الكورونا، فأخذ الناس يبحثون عن الخلاص الفرديّ بأيّ طريقة ممكنة. كما أشار الى وقوف باومان عند العلاقة بين العولمة وإنتاج الخوف بعد الحادي عشر من سبتمبر، فقد استمرّت السلطات في إنتاج دائرة الخوف لأنّها تزيد من تمسّك الشعوب بها وتساعدها في تحقيق أهدافها، حيث يسهل إطاعة القائد الذي يعدنا بالأمان. وقد ساعدت التكنولوجيا والعولمة في تعميم الخوف على كلّ العالم.
ينهي خالد عنبتاوي محاضرته بتحليل الدور الذي يلعبه الخوف السائل والعلاقات الاقتصاديّة الليبراليّة الجديدة في الانتقال من مرحلة الحبّ الصلب إلى مرحلة الحبّ السائل والعلاقات الحميمة السائلة السريعة غير الآمنة والمتغيّرة. ويشير إلى ربط باومان بين الخوف من الموت وبين الحب، دافعًا إيّانا إلى التفكير بأنماط علاقاتنا الإنسانيّة في هذا الزمن السائل، طارحًا أسئلة أخرى في نهاية محاضرته، منها: هل سنحافظ على نفس نظام العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة الموجودة بعد عودتنا للزمن السائل عند انتهاء الكورونا التي هي الزمن الصلب؟ أم ستكون هذه فرصة للتفكير بإيجاد بديل معًا بحيث نقف أمام قرارات السلطة القمعيّة؟ حيث يسهل في حالات الوباء أن نكون طيّعين للسلطة وعدم مسائلتها. وهل سنعمل على تكثيف التضامن والتكافل المجتمعيّ لننهي الوضع الرّاهن الذي لسنا فيه سوى عبارة عن تجمّع بشري يعيش فيه أفراد؟ علينا أن نتساءل عن كيفية إعادة أفراد المجتمع لفطرتهم الإنسانيّة.
أكدّ خالد في نهاية محاضرته على ضرورة فهم نقد باومان للحداثة ضمن سياق الأمور الصحيح، أيّ الحداثة نفسها، فنقده لها ليس عدائيًّا تجاهها أو تجاه علومها بل تفكيًرا نقديًّا من داخلها، وأيّ سحب لهذا النقد يجب أن يراعي السياقات المختلفة. كما أكّد على ضرورة استغلال الكورونا من أجل تعزيز التفكير لدينا كمجتمع متكافل، لا أفراد تسعى لأمان فرديّ بحت. وختم عنبتاوي على نسق درويش بقوله “وأنت تفكّر في الحبّ والخوف السائل فكّر بغيرك بمن لم يجد ولم تجد قوت الحمام”.
لمشاهدة المحاضرة كاملة اضغط/ي هنا