تمر القضية الفلسطينية بمفترق طويل خطير في تاريخها، فبنود اتفاق الائتلاف الحكومي شمل تنفيذ مشروع الضم لمناطق في الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات. ويحدث ذلك في ظل صمت عربي واسلامي وانشغال العالم بجائحة كورونا، وتهميش الموضوع الفلسطيني. حول هذه القضية كان “للمدينة” لقاء مع مهند مصطفى، مدير عام مدى الكرمل-المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، ومحاضر مشارك في الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي في الكلية. تجدر الإشارة انه صدر له مؤخرا كتاب جديد قام بتحريره بعنوان “حدود قوة إسرائيل في عقدها الثامن”.
لنبدأ بسؤال عام، أين القضية الفلسطينية اليوم؟
القضية الفلسطينية تمر في هذه المرحلة بمفترق طريق خطير، ويتمثل في الانتقال إلى المسار الأخير نحو تصفية القضية الفلسطينية، وعندما نستحضر كلمة تصفية، وهي كلمة مستخدمة في القاموس السياسي الفلسطيني منذ السبعينات، فلا نقصد من ورائها التحذير، او التنبيه لما هو قادم، بل بات لهذا المصطلح معنى على أرض الواقع، أي تفكيك كل قضايا الحل النهائي بما يخدم التصور الإسرائيلي الحالي. إسرائيل تعتقد أنها في لحظة تاريخية غير مسبوقة في تاريخها لإنهاء الملف الفلسطيني عبر تفكيك قضايا الحل النهائي: القدس والتي كلما طلع عليها فجر يوم جديد تتهود أكثر، واللاجئين، والحدود والمستوطنات والتي ستعمل إسرائيل على ضمها ومناطق في الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، إنها خطوات عملية وبقي منها خطوات تقوم بها إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا وعلى الأرض.
كيف وصلت القضية الفلسطينية إلى هذا الحال؟
ما وصلت إليه القضية الفلسطينية في الوضع الراهن، هو نتاج مباشر وغير مباشر لتداعيات اتفاق اوسلو. اتفاق اوسلو مات رسميا بعد فشل مفاوضات كامب دافيد عام 2000. ولكن موته لم يُذهب أو يُلغي ما نتج عنه، وما نتج عنه بقي قائما. وكانت هذه مصيبة الفلسطينيين. فضلا عن أن القيادة الفلسطينية ليست بحلٍ عن هذه المسؤولية أيضا. فمع موته لم يرجع الفلسطينيون إلى الوضع الذي سبق الاتفاق، بل بقوا في اللحظة التي مات فيها الاتفاق. في حينه كان يمكن العودة من تلك اللحظة إلى مرحلة ما قبل اوسلو، أما اليوم فمن الصعب مجرد التفكير في هذا الخيار.
وما هي تلك اللحظة؟ هل يمكن أن توضحها؟
أقصد باللحظة هو ذلك الواقع الذي نتج عن اتفاق اوسلو رغم موته. ويمكنني الإشارة إلى عدة نتائج بقيت حتى الأن وأثرت بشكل كبير على الموضوع الفلسطيني. منها وجود سلطة فلسطينية، وهي من نتاج اوسلو ولم تتطور إلى دولة كما توهمت القيادة الفلسطينية من مسار اوسلو. وتقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: أ، ب، ج (أو A, B,C)، هذا التقسيم كان في البداية اجرائيا حسب اوسلو، وتكّرس بعد موته. مع الاشارة أن مناطق C، والتي تقع ضمن السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية تُشكل 60% من الضفة الغربية، وفيها جميع المستوطنات والمستوطنين، فمنذ هذا التقسيم تقوم إسرائيل ببناء المستوطنات في مناطق C، حتى بلغ عدد المستوطنين أكثر من نصف مليون مستوطن، وهم أغلبية في هذه المنطقة والسكان الفلسطينيين الأصليين هم الأقلية. تحاول إسرائيل اعادة سيناريو القدس في هذا المناطق. أكثر من ذلك، أخذ اليمين الإسرائيلي هذا التقسيم وكيّف برنامجه السياسي له، لا يريد اليمين مناطق أ، ب، بل يريد ضم مناطق C. وفي هذه المناطق تجري عملية تطهير عرقي للوجود الفلسطيني من خلال هدم البيوت، وعدم اعطاء تصريحات للبناء، ونقل السكان من مكان لآخر كما هو مخطط لسكان خان الأحمر، وتضييق الحيز الجغرافي على الفلسطينيين. بكلمات أخرى تبنى اليمين نتائج أسلو وبقي معارضا له، فهو لا يريد السكان المتواجدون في مناطق أ، ب، والتي يعيش فيها 2.5 مليون فلسطيني (حوالي 90% من الفلسطينيين في الضفة) على 40% من مساحة الضفة الغربية.
اذن، قدم اوسلو ارضية خصبة لصفقة القرن؟
بكل تأكيد، واريد أن اضيف ايضا، ان الانقسام الفلسطيني الحالي، هو من نتاج اوسلو، فواقع السلطة كجسم وكسياسة، فرض الانقسام، فلولا التنافس على السلطة لما حدث الانقسام. والانقسام أضعف الفلسطينيين. لم يكن في التاريخ أن حركة تحرر وطني انقسمت على نفسها في خضم صراعها مع الاستعمار، وعززت انقسامها بواقع سلطتين منفصلتين جغرافيا، هذه سابقة في حركات التحرر الوطني، وهي كارثية على المشروع الوطني الفلسطيني. والانقسام اضاف “رونقا” خاصا لصفقة القرن، بأنه أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، وفرض قيودا عليها، حيث تتطرق صفقة القرن لقطاع غزة كمشكلة منفصلة عن القضية الفلسطينية، على الرغم انها تقترح أن تكون غزة جزء من الدولة الفلسطينية المشوهة كما تقترحها الخطة الأمريكية.
كيف يدخل مشروع الضم الإسرائيلي في هذا السياق؟
الضم هو الخطوة الاخيرة في التصور الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية. الموضوع مركب جدا، وصعب التطرق له بمقابلة صحفية. ولكن إذا حللّنا الخطة الأمريكية فهي في الجوهر مشروع الضم. الخطة الأمريكية في المجمل تقول التالي: أين وصل الطرفان على الأرض في هذه اللحظة هو ما سيكون الحل النهائي. أي ضم مناطق C، وابقاء المستوطنات، والقدس الموحدة عصمة لإسرائيل، وبقاء السلطة على حالها كتعبير سياسي للفلسطينيين، لا يهم التسمية، سلطة، بلدية موسعة أو دولة، ولكن ما هي عليه الأن هو ما سيكون. ومجرد الاعتراف بتغيير التسمية من سلطة إلى دولة فلسطينية، وهما في الجوهر واحد حسب الخطة الأمريكية، فهنالك شروط تضعها الخطة، وأهمها الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وبقاء الاجراءات الأمنية كما هي اليوم. اذن لا تغيير سيكون سوى اعلان الضم، أي شرعنة الضم حسب القانون الإسرائيلي والاعتراف الأمريكي.
هل زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لإسرائيل جاءت لمنع الضم في الوقت الحاضر؟
لا اعتقد ذلك، بل جاءت لتنسيق عملية الضم وإخراجها بشكل يضمن المصالح الأمريكية أيضا. الادارة الأمريكية الحالية تعيش أزمة داخلية بسبب اخفاقها في مواجهة جائحة كورونا، دونالد ترامب يراهن على قواعد انتخابية صلبة تدعمه في الانتخابات الوشيكة في تشرين الثاني-نوفمبر، وهي القاعدة الدينية الافنجيلية، وهم بالنهاية من دفعوه للضم، واتخاذ كل الخطوات المتعلقة بالشأن الفلسطيني. وهم الأن بعد اخفاقه المتكرر، يشكلون القاعدة الانتخابية الصلبة الوحيدة التي يملكها، ويصل عددهم إلى حوالي 80 مليون، ولا يستطيع خسرانها بمنع الضم. ولكنه يريد “ضما آمنا”، لأن هذه الخطوة هي خطوة دراماتيكية، ولا ننسى أن الولايات المتحدة كانت ضد كل سياسات الضم في العالم وأهمها ضم روسيا لإقليم القرم، وهي بدعمها لهذا الضم، المخالف للقانون الدولي وللتراث الدبلوماسي الأمريكي، تضع نفسها في مآزق دولي كبير. لذلك جاء بومبيو ليكون الضم آمنا ويأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمريكية.
ولكن يبقى الضم إسرائيليا وأمريكيا، أين العرب والمسلمين من كل ذلك؟
العرب والمسلمون صامتون أمام الخطوات، وليس المحاولات، لتصفية القضية الفلسطينية. والصمت هنا لا يعني عدم الكلام. الكلام كثير ولكن لا فعل حقيقي أمام مشروع الضم. توهم الجميع أن وباء كورونا سوف يؤجل تنفيذ ما تبقى من صفقة القرن، وفي مقدمتها مشروع الضم الإسرائيلي، لانشغال إسرائيل في مواجهة الوباء، ولكن إسرائيل مُصممة على هذا المشروع، وانشغال العالم سيسرع ذلك. وعودة إلى الكلام، حتى الكلام غير موجود تقريبا. بل هناك مساع حثيثة للتطبيع مع إسرائيل وانتاج وعي جديد حول مكانة إسرائيل في المنطقة. هنالك دول تعتبر ان تطبيعها مع إسرائيل يمر من خلال عداء للشعب الفلسطيني وتشويه قضيته العادلة. حالة غريبة حقا، هنالك دول في العالم واغلبها لها علاقات مع إسرائيل ولا تعادي الشعب الفلسطيني، لا بل تدعم سعيه لنيل حقوقه في حدود حزيران 1967. بينما دول عربية ترى ان تطبيعها مع إسرائيل لا يمر الا من خلال عداء الشعب الفلسطيني، أنا واثق أنها نخب فاسدة اخلاقيا وسياسيا ولا تمثل الشعوب العربية.
ولكن الشعوب العربية في حالة صمت، ولا نرى حراكات شعبية كما كانت في الماضي في شوارع المدن والعواصم العربية؟
عندما كنا نقرأ أن فلسطين هي ضمير الأمة الجماعي، لم تكن مقولة نثرية انشائية، بل تلك هي الحقيقة. وفي نفس الوقت علينا ان نعي أن الشعوب العربية مشغولة في قضاياها، وتدافع عنها في ظل أنظمة سلطوية. فالسوري مشغول بقضيته، واليمني، والعراقي، والليبي والمصري، هل تذكر مصر عندما كان يخرج فيها عشرات الألوف للتضامن مع فلسطين؟، ورغم انشغال كل شعب بقضيته، لكن ما يوحدهم جميعا هو قضية فلسطين، وما يمكن أن يوحدهم كأمة واحدة هي القضية الفلسطينية، ليس لأنها أكثر مأساوية من القضية السورية او اليمنية او الصومالية بل لأنها أعدل قضية عربية. لذلك تحاول إسرائيل بصورة حثيثة في السنوات الأخيرة، تشويه عدالة هذه القضية في الضمير والوعيّ العالميين من خلال ربط النضال الفلسطيني بالعداء للسامية. الشعوب العربية لا تستطيع فعل شيء في ظل ما هي عليه الأن من صراع في بلدانها، ووجود انظمة سلطوية، فقط التحرر من هذه الأنظمة سيعيد فلسطين إلى الصدارة، ولذلك الاستبداد والسلطوية هي ضد القضية الفلسطينية، حتى لو تغنت هذه السلطوية والاستبداد بفلسطين طويلا، وهي في الغالب تقف عند التغني.
حتى التغني مفقود في هذه الفترة؟
صحيح، أكثر من ذلك تغنت هذه الأنظمة الاستبدادية بفلسطين كحالة مجردة، ولم ترى الفلسطيني الانسان، بل قسم منها قمع الفلسطيني واضطهاده وقتله. وكأن فلسطين هي أرض ليس فيها أو لها انسان هو الانسان الفلسطيني. لذلك مهمة المشروع الوطني الفلسطيني المركزية في الوقت الراهن ليس بناء الدولة، بل إعادة وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان وترميم هويته الوطنية الجامعة، بالنهاية التعويل على مواجهة خطوات التصفية هو فقط من خلال وحدة الشعب الفلسطيني وهي أكبر من مجرد إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية.
هل تعتقد أنه يجب تفكيك السلطة الفلسطينية كرد فعل على الضم؟
كان هناك لحظة تاريخية كان يمكن العودة إلى الوراء لما قبل اوسلو، ومنها تفكيك السلطة، وهي اللحظة التي ذكرتها لك سابقا. ولكن ليس هناك خيار عملي بتفكيك السلطة الفلسطينية، التي اصبحت جزء عضويا من مجالات كثيرة في حياة الناس. ومقولة “تسليم المفاتيح” هي فكرة تفترض أن إسرائيل ستعود إلى احتلال مناطق السلطة أ، ب، وهكذا تدفع إسرائيل ثمن تعنتها من خلال زيادة تكلفة احتلالها النابع من اجبارها على العودة كدولة محتلة في الضفة الغربية، وهي فكرة لا تأخذ بعين الاعتبار أن هناك خيارات أخرى ستكون أمام إسرائيل ازاء واقع “تسليم المفاتيح”، وأهمها استلام مجموعة فلسطينية أخرى المفاتيح مكان المجموعة الحالية. حتى حركة حماس أدركت منذ أن السلطة هي واقع لا يمكن الرجوع عنه، فشاركت في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، وهي بنفسها تمارس السلطة في قطاع غزة. خيار حل السلطة غير عملي، وقد يكون أكثر خطورة من الوضع القائم، ولكن هناك خيار في تحويل السلطة إلى ذراع مدنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجريدها من دورها السياسي ونقل مركز القرار السياسي للمنظمة، حتى تلك القرارات المتعلقة بعمل السلطة وعلاقتها مع إسرائيل يجب أن يكون قرار منظمة التحرير، هذا هو الحل الواقعي والعملي الوحيد والخيار السياسي الأجدر لوضع السلطة في مواجهة خطوات تصفية القضية الفلسطينية.