للسنة السابعة على التوالي، بمثابرة وتصميم نظّم مركز مدى الكرمل مؤتمره السابع لطلبة الدكتوراه الفلسطينيّين، في فندق رمادا أوليڤييه في الناصرة، مع بثّ مباشر لجمهور مدى الكرمل على صفحته في الفيسبوك. بمرور الوقت، تحوَّلَ هذا المؤتمر إلى “محطّة معرفيّة، ثقافيّة وتفاعليّة وتداوليّة، يلتقي فيها طلّاب فلسطين للدراسات العليا في الناصرة، بدون حدود، ولا حواجز”، كما وضّح الدكتور مهنّد مصطفى (المدير العامّ لمدى الكرمل)، في افتتاحيّته للمؤتمر. وأضاف مصطفى أنّ “المعرفة ومشاركتها وتداولها هي تأكيد على مقولة أنّ الحقل الثقافيّ أصبح -ومن شأنه أن يكونَ- الحقل الذي يُوحّد فلسطين وشعبها، بإرادتهم، أكثر من الحقل السياسيّ، الذي توحّدهم فيه إسرائيل في أحيان رغمًا عنهم”. وشدّد د. مصطفى على أنّ “المعرفة ليست من أجل المعرفة، أي من أجل فهم الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وَحسب، وإنّما المعرفة هي أيضًا حقّ وهي من أجل الحقّ، أي العدل والحاجة إلى محاربة الاستبداد في كلّ أشكاله الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة”.
تضمَّنَ المؤتمر جلستين اثنتين، أدارت الأولى منهما د. أريج صبّاغ–خوري (محاضِرة في قسم علم الاجتماع وعلم الإنسان – الجامعة العبريّة، وعضوة لجنة الأبحاث والهيئة الإداريّة في مدى الكرمل)، وكان عنوانها “مقارَبات سياسيّة وتاريخيّة”. اشتملت هذه الجلسة على ثلاث مُداخلات. في المداخلة الأولى، عرضت أسماء الشرباتي، الطالبة لنَيْل درجة الدكتوراة في برنامج الدكتوراة للعلوم الاجتماعيّة – جامعة بير زيت، بحثًا بعنوان “كيف يُمَثَّل الفلسطينيّ في الكتب المدرسيّة الوطنيّة؟”. سلّطت الشرباتي الضوء على الكتاب المدرسيّ ككتاب سياسيّ، يُمارِس دَوْرَه في إيصال رسائل ضمنيّة تحمل برامج سياسيّة تُعبِّر عن أَجِنْدات النُّخَب الوطنيّة التي أشرفت على تشكيل مفاهيمه، من خلال التوقُّف عند أشكال تمثيل الكتاب المدرسيّ لفئات المجتمع الفلسطينيّ، وفاعليّتها المتفاوِتة تبعًا لاختلاف أماكن سكنها: في المدينة والقرية والمخيّم والبادية، وفي الشتات. بيّنت شرباتي الاستشراق الداخليّ في الكتاب المدرسيّ، من خلال الحديث عن بعض الفئات (البدو؛ اللاجئين؛ سكّان المخيّمات؛ الشتات) كآخرين منفصلين عن الشعب الفلسطينيّ، وإقصائهم من خلال استخدام صيغة الضمير الغائب، إضافةً إلى حصر فلسطين والتمثيل المؤسَّساتيّ للفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وغزّة فقط. واستحضرت شرباتي في هذا الصدد اتّفاقيّة أوسلو وتقسيم المناطق الجغرافيّة إلى “أ” – “ب” – “ج”. وأشارت شرباتي إلى التعامل مع تحدّيات المدينة والقرية الفلسطينيّة بمفاهيم شبيهة بتلك التحدّيات التي تعاني منها مدن وقرى في أيّ مكان آخر في العالم، دون ربطها بالاحتلال، مع بروز سياسة القبول بالأمر الواقع التي تَكُون فيها المقاومة ضمن المسموح والمقبول فقط. اختتامًا، ادّعت شرباتي أنّ السلطة تعيد إنتاج ذاتها وترسيخ هيمنتها من خلال تضمين أيديولوجيّاتها، وخطابات الخضوع والخنوع في الكتاب المدرسيّ.
أمّا البحث الثاني، الذي جاء بعنوان “صناعة “ابن الحزب” في المنظومة التربويّة لحركة الشبيبة الشيوعيّة في إسرائيل”، فقد كان للطالب عماد جرايسي، وهوَ طالب لنَيْل درجة الدكتوراة في كلّيّة التربية – جامعة حيفا. ناقش جرايسي سيرورة “صناعة” وصقل الهُويّة من خلال الحركات الشبابيّة الأيدولوجيّة الناشطة بين أبناء الشبيبة الفلسطينيّين في إسرائيل. وتناوَلَ في مداخلته العلاقةَ المتبادلة والمتداخلة بين حقلَيِ التربية والتعليم والسياسة، ودَوْرها في سَبْك هُويّة أبناء الشبيبة، وعلى وجه التحديد في المجتمعات التي تشهد تأزُّمًا بين مجموعة الأقلّيّة ومجموعة الأغلبيّة. يدّعي جرايسي أنّ الحركات الشبابيّة الأيديولوجيّة تُسهم في صناعة “ابن الحزب”، أي صناعة نُخَب حزبيّة، لا تتعدّى الحزب، من خلال ممارسة العمل السياسيّ الحزبيّ في الحركة. وكشف جرايسي عن أحد تبصُّرات بحثه، وهو صناعة هُويّة جديدة هي بمثابة هُويّة “جَنينيّة” قَيْد النموّ والإنشاء، تُسمَّى الهُويّة “الفلسطينيّة – الإسرائيليّة”، تدمج بين الهُويّة القوميّة وهُويّة المواطَنة، حيث تمنع -من جهة- التقوقع في القوميّ والثقافيّ بهدف الاندماج في المجتمع الإسرائيليّ (لا بمفهوم الانصهار)، بينما تحافظ -من جهة أخرى- على الهُويّة الجمعيّة للمركّبات الفلسطينيّة على الرغم من كلّ التحدّيات التي يمرّ فيها الفلسطينيّ في إسرائيل.
وجاء البحث الثالث والأخير لهذه الجلسة بعنوان “ولادة الذات المهرَّبة: الحيوانات المنويّة والتفاوض على المستقبل في فلسطين /إسرائيل“، عرَضَهُ الباحث عزّ الدين أعرج، الطالب لنَيْل درجة الدكتوراة في الأنثروﭘـولوجيا – معهد الدراسات العليا – جنيف – سويسرا. تطرّق أعرج في نقاشه إلى تجربة النُّطَف المهرَّبة من داخل السجون الإسرائيليّة في السنوات التسع الأخيرة من وجهة نظر زوجات الأسرى، والمعاني المعقَّدة والمتشابكة، بين الاجتماعيّ والسياسيّ الاستعماريّ والقوميّ والدينيّ، التي تكتسبها هذه الممارَسة في واقعٍ مركَّب من اللايَقِين والعزلة والحرمان الأُسَريّ. ويوضّح أعرج أنّ النساء تُحاولنَ، من ناحية، التأكيد على فعّاليّتهنّ من خلال إثبات أنّهنّ مُخْلصات بشأن ما يحدث للجماعة الفلسطينيّة، ومن ناحية أخرى، يؤكّدنَ على حقّهنّ في المطالَبة بحياة اجتماعيّة أفضل، وبتحسين أوضاعهنّ الاجتماعيّة والمعيشيّة، وبالتفاوض على الأعراف المجتمعيّة ومقاومتها. ووضّح كذلك كيفَ يتحوّل الإنجاب في هذه الحالة إلى مساحة للتفاوض بشأن المستقبل والممكن والشرعيّ، وإلى مَسعًى من أجل الاعتراف والتعافي والحفاظ على العائلة؛ إذ تتحدّث النساء عن المستقبل بصيغة الحاضر، وفي هذا نوع من الهيمنة المضادّة، أي التأكيد على القدرة على إعادة تعريف المستقبل، وإعادة تعريف الممكن وما هو محتمل. ويجادل أعرج طارحًا أنّ سياسات الإنجاب في الواقع اليوميّ للفلسطينيّ لا تتعلّق بإدارة الحياة نفسها فحسب، وإنّما تتعلّق كذلك بإدارة ما يمكن أن يكون حياةً أو صراعًا أو تفاوضًا على المستقبل.
جاءت الجلسة الثانية تحت عنوان “مُقارَبات لغويّة وتعليميّة” أدارتها د. حنين قرواني خوري، الـمُحاضِرة والباحثة في قسم اضطرابات التواصل في كلّيّة علوم الرفاه والصحّة – جامعة حيفا. خلال هذه الجلسة، قُدِّمت ثلاث مداخَلات، كانت الأولى من بينها لمنى عبد الرازق، الطالبة لنَيْل درجة الدكتوراة في اللسانيّات في قسم الأدب الإنـﭼـليزيّ وعلم اللسانيّات – جامعة بار إيلان. ركّزت عبد الرازق في مداخلتها “توثيق المهارات اللغويّة لدى الأطفال الفلسطينيّين الناطقين بالعربيّة المشخَّصين على طيف التوحُّد” على المقارنة بين المهارات اللغويّة (الصرفيّة – النحويّة والصوتيّة) لدى أطفال طيف التوحُّد والأطفال ذوي التطوُّر الطبيعيّ متحدّثي اللغة العربيّة – الفلسطينيّة، في محاولة لتشخيصٍ أدقّ للعسر اللغويّ لدى الأطفال المشخَّصين مع طيف التوحُّد، وبالتالي ملاءَمة طُرُق العلاج. أظهرَ بحث عبد الرازق ضعفًا ملحوظًا لدى أطفال طيف التوحُّد في تنفيذ المهَمّات اللغويّة، مقارنةً بأقرانهم من مجموعة الأطفال ذوي التطوُّر الطبيعيّ. إضافة الى هذا، ظهرت اختلافات فرديّة داخل مجموعة أطفال طيف التوحُّد نفسها. في نهاية مداخلتها، نصحت عبد الرازق بضرورة بناء خطط علاجيّة تشمل تطوير المهارات الصرفيّة – النحويّة كهدف رئيسيّ، بالتوازي مع تطوير مهارات التواصل والمهارات الاجتماعيّة.
قَدّمت المداخلةَ الثانية، التي جاءت تحت عنوان “ازدواجيّة اللغة وبرامج التدخُّل لدى أطفال الروضة العرب”، لينا حاجّ، الطالبة لنَيْل درجة الدكتوراة في اللسانيّات في قسم الأدب الإنـﭼـليزيّ وعلم اللسانيّات – جامعة بار إيلان، وسلّطت من خلالها الضوء على أهمّيّة برامج التداخل المبنيّة في تنمية المهارات اللغويّة، والوعي اللغويّ، والتنوُّر اللغويّ والقدرات الإدراكيّة في سياق ازدواجيّة اللغة العربيّة [اللغة المحكيّة المستعمَلة في الحديث اليوميّ، واللغة المعياريّة المستعمَلة في الكتابة والقراءة] لدى أطفال الروضة العرب. يدمج برنامج التدخّل بين القدرات اللغويّة والميثا_لغويّة والقدرات الإدراكيّة، وبالأخصّ الوظائف التنفيذيّة التي تشمل: الذاكرة؛ الانتباه؛ التخطيط؛ المرونة الفكريّة. بيّنت نتائج بحث عبد الرازق نجاعة برامج التدخّل في تحسين أداء الأطفال في عمليّتَيِ القراءة والتعلُّم، وأثبتت تأثير عاملَيِ المجموعة والزمن على الوعي الصوتيّ لدى الطلبة، والوعي الصرفيّ، والمهارات اللغويّة، ومهارات القراءة والكتابة، والمهارات الإدراكيّة، بحيث إنّ أداء مجموعة التدخّل كان أعلى من غيرها، كما كان أداء الطلبة بعد التدخّل أفضل من أدائهم قبل التدخّل.
المداخلة الأخيرة في الجلسة والمؤتمر كانت للطالبة لنَيْل درجة الدكتوراة في كلّيّة التربية – جامعة حيفا، تغريد زعبي، وحملت العنوان “تأثير ترجمة الامتحان السيكومتريّ على مدى نجاح الطلبة العرب مقارنة بالطلبة اليهود“. استعرضت زُعبي المتغيّرات الثقافيّة وثُنائيّة اللغة التي تعترض نجاح الطلبة العرب في الامتحان السيكومتريّ، مقارَنةً بالطلبة اليهود، وذلك من خلال فحص مستوى تمكُّن الطلبة من الفصل الكلاميّ في الامتحان السيكومتريّ، وعلى وجه الخصوص فحص ما إذا كانت ترجمة النصّ من اللغة العبريّة هي العامل الإشكاليّ الرئيسيّ الذي يُعيق نجاح الممتحَنين العرب في الفصل الكلاميّ من الامتحان أَم لا. ادّعت زعبي أنّ الامتحان يترجَم شفاهيًّا فقط لا ثقافيًّا، وعدّدت العوامل التي قد تُسبّب الفجوات التحصيليّة بين الطلبة اليهود والطلبة العرب في امتحان السيكومتريّ، بالإضافة إلى تلك الديـمـﭼرافيّة: ازدواجيّة اللغة العربيّة بين عامّيّة منطوقة وفصحى مكتوبة، فضلًا عن الاختلاف بين اللغة العربيّة الكلاسيكيّة وتلك الحديثة، وظاهرة تبديل اللغة بين العربيّة والعبريّة، علاوةً على الإشكاليّات الناتجة عن ترجمة النصّ من لغة إلى لغة، بما في ذلك الحذف، والإضافات، والأخطاء، والـمَيْل إلى الترجمة الحرفيّة.
لمشاهدة الجلسة الأولى، اضغط هنا.
لمشاهدة الجلسة الثانية، اضغط هنا.