نظّمَ المتحف الفلسطينيّ مؤتمره السنويّ الثالث “فلسطين: إنتاجُ المعرفة، إنتاجُ المستقبل” في جامعة بير زيت، بالشراكة مع دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة في جامعة بير زيت، ومركز مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة.

جاء المؤتمر بالتزامن مع معرض المتحف الفلسطينيّ الحاليّ “بلدٌ وحدُّهُ البحرُ: محطّات من تاريخ الساحل الفلسطينيّ (1748-1948)”، المنطلِق في سرديّتِه من صعودِ عكّا في القرن الثامن عشر، ثمّ صعودِ يافا في القرن التاسع عشر، ثمّ مركزيّةِ مدن الساحل الاقتصاديّة وتنامي النفوذ الأوروبيّ، فالنكبة وَ “انكسار البلاد” في القرن العشرين.

وشكّلت الأوراق المقدَّمة إلى المؤتمر بنْية أساسيّة نحو قراءة الساحل الفلسطينيّ اليوم، لإعادة مَوْضَعَته ضمن السياق الفلسطينيّ الأوسع، سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ولربط واقعه ومستقبله بواقع فلسطين من البحر إلى النهر، ليتجلّى سؤال المؤتمر بشأن عمليّة إنتاج المعرفة فلسطينيًّا، وعلاقتها بالخِطاب التحرُّريّ المحلّيّ والعالميّ وممارساتِه، مستنِدًا إلى مجموعة من التساؤلات، على غِرار: كيف نفكّر بفلسطين؟ وكيف نبحثها؟ وكيف يجري إنتاجها وإعادة إنتاجِها بحثيًّا؟ ومتناولًا خطاب الأصلانيّة، الذي تطرحه دراسات الاستعمار الاستيطانيّ، بالنظر إلى آفاقِه وحدودِه ومقارَباتِه الثقافيّة والسياسيّة.

الجلسة الأولى

افتتحت المديرة العامّة للمتحف، د. عادلة العايدي-هنيّة، المؤتمر بكلمة قالت فيها: “هذا المؤتمر يأتي ضمن إستراتيجيّة المتحف الجديدة التي بدأها قبل ثلاث سنوات، والتي أطلق بموجبها برنامجًا معرفيًّا يعزّز رؤية المتحف المتمثّلة في إنتاج ونشر تجارب معرفيّة تحرُّريّة عن فلسطين ثقافةً وتاريخًا وشعبًا، وإنتاج المعرفة المتمثّلة في الجمع بين المعرفة الفرديّة والمادّة الوثائقيّة”، وأضافت: “المتحف ينظّم فعّاليّات أكاديميّة على مدار العام، ويستمرّ في تقديم مِنَحٍ بحثيّة متعلّقة بالجانب الثقافيّ، ذهابًا إلى سدّ الفجوات المعرفيّة حول التاريخ الفنّيّ الفلسطينيّ”.

وبدأ المؤتمر بمداخلة قدّمها د. بشارة دوماني، الكاتب والمؤرّخ ورئيس جامعة بير زيت، بعنوان “سرديّات المستقبل لتأريخ فلسطين”، قال فيها: “السرديّات التاريخيّة تتميّز بكونها تستمدّ وجودها من الحاضر وذات توجّه مستقبليّ، لذا فإنّ الماضي يمثّل ميدانًا متنازَعًا عليه بصورة مستمرّة بين أنماط إنتاج المعرفة التي تمنح امتيازًا لأزمان وأماكن وفئات اجتماعيّة معيّنة”. وقدّم خلال مُداخلتهِ تأمّلات حول المعرض الحاليّ، وحول تجربة ظاهر العمر كشخصيّة أسّست لتحوُّل تاريخيّ حديث.

الجلسة الثانية

انطلقت الجلسة الثانية بعنوان “نحو مساءلة المنهج”، بالشراكة مع دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة في جامعة بير زيت، قدّمت فيها د. لينة ميعاري، الأستاذة المساعِدة في دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة ومعهد دراسات المرأة في جامعة بير زيت، مداخلة بعنوان “الإنتاج المعرفيّ والمنهجيّات النسويّة المناهضة للاستعمار”، تحدّثت فيها عن استعماريّة المعرفة، والتواطؤ الأكاديميّ مع الإمبرياليّة العالميّة، وأنّ عصر الاستعمار الجديد أتاح طرقًا أخرى للهَيْمنة المعرفيّة، فحتّى الحِوارات والمجادلات حول القضايا المعرفيّة في البلدان المستعمَرة تكون محدَّدة أو مستعارة من الغرب، لا من الشعب الأصلانيّ، كما ركّزت على الإنتاج المعرفيّ النسويّ التحرُّريّ، وعلى كيفيّة اشتباك النسويّة المناهِضة للاستعمار مع أنماط المعرفة المنتَجة عن الواقع الاستعماريّ.

وضمن الجلسة ذاتها، قدّمت د. رنا بركات، الأستاذة المساعِدة في دائرة التاريخ في جامعة بير زيت، ومديرة متحف جامعة بير زيت، مداخلة بعنوان “أصلانيّة أم أصلانيّ؟ سؤال المنهجيّة”، ركزّت ضمنها على طرح أسئلة أكثر ممّا على تقديم مادّة نظريّة أو توجُّه محدَّد، وأشارت إلى أنّها، كغيرها من الباحثات والباحثين، تركّز على مصطلح “إنتاج المعرفة”، لتعبّر، وبنقد ذاتيّ، عن أنّ الاستخدام الواسع لهذا المصطلح يُبطل معناه، وبالتالي يُبطل المعرفة. كذلك أكّدت أنّه من المهمّ التفكير في الأسئلة التالية عند الحديث عن “إنتاج المعرفة”، وهي: لمن ننتج المعرفة؟ وكيف نستخدم الكلمتين “أصلانيّ” وَ “أصلانيّة”؟ كما طرحت تساؤلات من قَبيل: لماذا التاريخ؟ لماذا استعمار استيطانيّ؟ لماذا أصلانيّ؟ لماذا استخدام أصلانيّة؟ وتعاملت معها في سياق فلسطين ككلّ.

وتحدّث د. علاء العزّة، الأستاذ المساعِد في الأنثروﭘـولوجيا الثقافيّة، ورئيس دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة في جامعة بير زيت، في مداخلة بعنوان “الزمن والزمانيّة والمنهج في دراسة فلسطين والفلسطينيّين”، عن الفهم الثقافيّ للزمن وارتباطه بالعصر الحاضر، فاعتبر أنّ الزمن تمثيل للمجتمع وقراءة له؛ إذ هو يُخلَق ويُفهَم من خلال الأطر الاجتماعيّة. وفلسطينيًّا، يُفهم الزمن من خلال علاقات القوّة، وهناك إشكاليّة في تدفّق وتسارع الأحداث، فبعض المجتمعات غير قادرة على التعامل مع هذا التسارع، إذ إنّ عدم القدرة على فهم الزمانيّة يؤدّي إلى جعل الذات حالة متشظّية. واختتم بالقول إنّ الماضي يُقرأ من عيون الحاضر ومن تصوُّرات المستقبل.

الجلسة الثالثة

وجاءت الجلسة الثالثة بعنوان “مقاربات سياسيّة وثقافيّة للاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين”، بالشراكة مع مركز مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، تحدّث فيها د. أباهر السقّا، الأستاذ المشارِك في دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة في جامعة بير زيت، عن “كيف نقرأ الحالة الاستعماريّة /المستعمَريّة في المستعمرتَيْن الأولى (1948) والثانية (1967)، معرفيًّا ومنهجيًّا، وبأيّة أدوات؟”، مركِّزًا على الصعوبات المنهجيّة المرافِقة للمقارَبات البحثيّة، نظرًا لاختلاف التمثُّلات والممارسات في سياق استعماريّ واحد، إذ أحدث ذلك إفرازات قانونيّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة مُغايرة في المستعمرتَيْن على مستوى الخطابات والممارَسات، وطارحًا أسئلة على غرار: هل نستمرّ في التعامل مع التكوينات والتشكيلات التي أفرزتها التصنيفات الاستعماريّة؟ وما الآليّات الممكنة لتجاوزها معرفيًّا وبحثيًّا ومنهجيًّا؟

أمّا د. مي البزور، الأستاذة المساعِدة في دائرة العلوم الاجتماعيّة والسلوكيّة في جامعة بير زيت، فكانت مداخلتها بعنوان “مفهوم التطبيع ضمن بنْية الاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين”، تحدّثت فيها عن أنّ للتطبيع مستويات ضمن السياق العربيّ، وأنّ تعريفه داخل حدود “فلسطين الانتدابيّة” يختلف عن تعريفه خارجها (منها المستويان الحكوميّ والشعبيّ)، مشيرة إلى وجود تسارع في وتيرة التطبيع الرسميّ، إلّا أنّ الشعوب العربيّة ما زالت رافضة له؛ فنسبة 87% من الشعوب العربيّة ما تزال رافضة للتطبيع مع إسرائيل. وخَلَصَتْ ورقتها إلى أنّ ممارسات التطبيع الرسميّ ظهرت قبل البدء بتداول المصطلح، لكن آنذاك لم تُوصَم هذه الممارسات بالتطبيع.

وجاءت مداخلة د. مهنّد مصطفى، المدير العامّ لمركز مدى الكرمل، بعنوان “الهبّة الشعبيّة في أيّار 2021 ومحو الخطّ الأخضر من الأرض والوعي”، وتحدّث فيها عن أهمّيّة الانتفاضة عام 2000 باعتبارها الحدث الأهمّ بالنسبة لفلسطينيّي الداخل المحتّل بعد النكبة؛ فقد ظهرت في هذه المرحلة ثلاثة تحوُّلات؛ الأوّل: الانتقال من حالة إخفاء الفلسطينيّ إلى حالة استحضاره الدائم. الثاني: التحوُّل من حالة الفصل والإقصاء من المنظومة الاقتصاديّة والسياسيّة الإسرائيليّة إلى حالة من الاندماج في هذه المنظومات. الثالث: التحوُّل من سياسات الاستهتار الكامل بالثقافة إلى الاعتراف المستهتر (كما أنّها أنتجت تمثُّلاتٍ تُناقِضُ الحالة الاستعماريّة كحدث مؤسِّس وتاريخيّ في جوهره) بأنّ فلسطينيّي الداخل المحتلّ جزء لا يتجزّأ من كلّ الحالة الاستعماريّة وليسوا حالة خاصّة.

الجلسة الرابعة

قُدّمت الجلسة الرابعة بعنوان “الخطاب التحرُّريّ والممارسة الثقافيّة”، وتحدّث فيها القيّم المساعد أحمد الأقرع حول معرض “بلدٌ وحَدُّهُ البحر”، وركّز في مداخلته على الأقسام الثلاثة الرئيسيّة في المعرض: عُمران عكّا؛ صعود يافا؛ النكبة. ارتكز القسم الأوّل على حالة البناء التي أنتجها ظاهر العمر. أمّا القسم الثاني (الانتقاليّ)، فكان عن التنظيمات العثمانيّة، وفيها برزت حالة قانون تسجيل الأراضي وأثرها على حياة المواطنين. وأمّا القسم الثالث، فهو بعنوان “يافا قلب المتوسّط”.

وفي مداخلة الممثّل والمخرج والمسرحيّ الفلسطينيّ عامر حليحل، تحدَّث عن “مَسْرَحَة الذاكرة: ما بين الامتثال للفنّ والإخلاص للتاريخ”، وقدّم فيها تأمّلات حول الكتابة المسرحيّة في مواضيع تاريخيّة، فقال: “لا يهمّني من التاريخ الأحداثُ أو الاحتفال بالبطولة؛ فالمسرح ليس المكان لتعلُّم التاريخ، ولم يُخلق لأستقي منه المعلومات عن فترة معيّنة. الفنّ -وإن تضمّن العملُ معلومات تاريخيّة- ليس أداة تعليميّة؛ فقد وُجد الفنّ للسؤال، في معنى الوجود ومعنى الحياة. الفنّان لا يملك القدرة على الإجابة، فهو غير مهتمّ فنّيًّا -على سبيل المثال- بالسنة التي فيها حُوصر ظاهر العمر، بل يفكّر ويهتمّ بما فكّر فيه الزيدانيّ ورفاقه حينذاك. يُغريني أن أعرف كيف تكلّموا، وماذا أكلوا، ومن كان مخلصًا في تلك الفترة، ومن خاف، وماذا كان ظاهر يقول لنفسه سرًّا. لا أهتمّ بقادة الحرب وكيف انتصروا ومَن ربح، بل أهتمّ بالجنود الذين خاضوا حروبًا أُنزِلت عليهم ولم أدرِ كيف خاضوها”.

أمّا المداخلة الأخيرة، فقدّمها الشاعر علي مواسي، وكانت قراءةً شعريّةً تحت عنوان “بحرٌ وقع على بلاط يافا”، تضمّنت قصيدتين كَتَب إحداهما بعد زيارته لمعرض “بلدٌ وحَدُّهُ البحرُ”، نقتبس منها:

“وضعتُ مخدّتي في الشعر
وتركتُ للأحلامِ ضوءًا خفيفًا،
كي لا تخافَ إِنِ استيقظَ ليلُها ولم تجِدْني،
تركّبُ على رنّةِ الشتوِ أغانيَ
تحشو بها بنادقَ المقاومينَ في تيمور الشرقيّةِ،
تطلقُها كوابيسَ في ليالي سفن البرتغالِ،
أمسحُ بنارِها بلاطَ بيتٍ بلّلهُ ماءُ يافا
في لحظةِ الهدمِ
الكبير”.

وقد أثنى مواسي على مبادرة المتحف في تخصيص قراءة شعريّة ضمن مؤتمر أكاديميّ، مؤكّدًا على أهمّيّة وجمال حضور الفنّ في مختلف المحافل المعرفيّة في فلسطين، وألّا ينفصل عنها.

يُذْكَر أنّ المتحف سيُصْدِر منشورًا يتضمّن الأوراق البحثيّة التي قُدِّمت في المؤتمر في خريف عام 2022، سيتضمّن مجموعة من المداخلات البحثيّة والتأمّلات المعرفيّة التي قدّمها مجموعة من الباحثين والباحثات في البرنامج المعرفيّ والبحثيّ في المتحف الفلسطينيّ خلال الأعوام 2019-2022. تجدر الإشارة إلى أنّ مداخلات المؤتمر كاملةً ستكون متاحة على قناة المتحف الفلسطينيّ على اليوتيوب، ونُحيطكم علمًا أنّ معرض “بلدٌ وحدُّهُ البحر” مستمرّ حتّى نهاية تشرين الأوّل عام 2022، يرافقه برنامج عامّ وتعليميّ ومعرفيّ متجدّدة كلّ شهر، وتشتمل فعّاليّات ومواضيع متنوّعة.