يوم الجمعة الموافق للحادي عشر من تشرين الأوّل، انطلقت ورشة الاستعمار الاستيطانيّ والصهيونيّة في لقائها الثالث. وهي ورشة دراسيّة وبحثيّة يُشارك فيها باحثون وطلبة الدراسات العليا من فلسطين. تتكوّن الورشة من سلسلة لقاءات لمدّة سنة ونصف السنة ابتغاءَ تدريب رعيل جديد من الباحثين والباحثات في دراسة إسرائيل والصهيونيّة كمشروع استعمار استيطانيّ، ويُديرها الأستاذ الدكتور نديم روحانا، وتنسّق أعمالَـها الباحثة عرين هوّاري.
عالجت الورشة خلال اليومين موضوع “الشعوب الأصلانيّة ومقاومة الاستعمار الاستيطانيّ: فلسطين وحالات أخرى”. وقد افتتحها البروفيسور نديم روحانا في مُداخلة لتأطير الورشة نظريًّا، من خلال فتح «الأصلانيّة» كمجال معرفيّ -أكاديميّ لدراسة الحالة الفلسطينيّة. قام روحانا في مداخلته بتحليل أسس الإهانات التي يتعرّض لها السكّان الأصليّون في حالة استعمار استيطانيّ وكيفيّة مواجهتها، سواء أكان ذلك في الخطاب الشعبيّ أم في العمل السياسيّ. وتناول روحانا تعبيرات الفلسطينيّين في إسرائيل عن كرامتهم الوطنيّة ودَور هذه التعبيرات في مواجهة المنظور والممارسة الصهيونيَّيْن اللذَيْن ينكران علاقة الفلسطينيّين بوطنهم. وقدّم أمير مرشي، طالبُ الماجستير وعضو الورشة، مداخلةً راجَعَ من خلالها التشكُّلاتِ المتعدّدةَ (القانونيّة؛ السوسيولوجيّة؛ الأنثروپولوجيّة) لمفهوم «الأصلانيّة»، محاولًا بذلك تحديد أثر تلك التشكُّلات السياسيّ والأيديولوجيّ على النضال والتحرّر في السياق الفلسطينيّ.
أمّا في الجلسة الثانية، فقد تحدّثت المحامية سهاد بشارة -مديرة قسم الأرض والتخطيط في مركز عدالة القانونيّ-عن العلاقة الشائكة بين السياسيّ والقانونيّ في السياقات الاستعماريّة، وخصّت بذلك فلسطين. في محاضراتها قامت بإعادة النظر في «الأصلانيّة» كأداة قانونيّة في تحليل السياق الفلسطينيّ، والأثر السياسيّ المترتّب على تشكيل المشروع والنضال الفلسطينيّ. كذلك تناولت الاستحقاقاتَ القانونيّة؛ للتعامل مع البدو في النقب وفي الضفّة الغربيّة كمجموعة أصلانيّة، وبالتالي منحهم بشكل خاصّ رزمة من الحقوق وَفق قرارات الأمم المتّحدة. ترى سهاد بشارة أنّ الأثر السياسيّ لهذه التعريفات القانونيّة يخلق أنماطًا تعيق النضال الفلسطينيّ، في سعيه لصياغة هدف سياسيّ واحد، وهو تفكيك هذه المنظومة الاستعماريّة. وعلى أثر مداخلتها، قدّم أحمد عزّ مُقاربة تدّعي أنّ هذه التعريفات القانونيّة تخفي أيديولوجيّات كاملة عنصريّة تجاهنا تعمل على تفكيك شعبٍ مُستعمَر.
في الجلسة الثالثة، قدّم الدكتور أحمد أمارة الباحث القانونيّ مداخلة، بدأت من حيث ما انتهت إليه الجلسة السابقة، متناولًا أسئلةً جديدة متعلّقة بتشابُكِ شقَّيِ النضال الوطنيّ القانونيّ والسياسيّ، في سياق أراضي البدو الفلسطينيّين في منطقة السبع، ومُحاولات المرافَعة القانونيّة لإنجاز استحقاقات قانونيّة لصالح البدو الفلسطينيّين في قضايا الأراضي. في مداخلته طرح كذلك المجريات التي واكبت اتّخاذ القرار بتبنّي الحجّة القانونيّة التي ترى أنّ البدو الفلسطينيّين هم أصلانيّون بالاعتماد على الإعلان الدوليّ لحقوق الشعوب الأصلانيّة (2007). أسهمت هذه النقاط الشائكة في تحفيز نقاشات بشأن أنماط النضال الفلسطينيّ التي تُنتَج من خلال مُحدّدات سوسيو-سياسيّة لِما هو «أصلانيّ». في تعقيب على المحاضرة، ناقش الدكتور عوض منصور (المحاضر في العلوم السياسيّة في جامعة القدس) مفاهيميًّا «الاستعمارَ الاستيطانيَّ»، مدّعيًا أنّ ما يجري في فلسطين هو «استيطان استعماريّ» وليس “استعمارًا استيطانيًّا”، ويُحدّد بذلك نمطًا واحدًا للنضال وهو مقاومة قانونيّة، سياسيّة وعسكريّة، تعملُ فقط على تقويض هذه المنظومة.
وفي الجلسة الأخيرة من اليوم الأوّل، تحدّث طالب الدكتوراه وعضو الورشة علي موسى عن أطروحته حول الذاكرة الجماعيّة والذاكرة الفرديّة بشكل متوازٍ لتبنّي ذاكرة جماعيّة غير نخبويّة، بمعنى أنّها تُعنى بنصوص ذاتيّة اجتماعيّة؛ تجري صياغتها من خلال علاقتها بالمكان الفلسطينيّ، في زمن الصراعات والحروب منذ بداية الاستعمار. كما عرضَ الباحث سامر جابر، عضو الورشة، مداخلته حول تطبيع العلاقة مع مؤسّسات المستعمِر. تناولت مداخلة جابر إعادة تعريف التطبيع من خلال ربط فعل التواصل مع المستعمِر بتشريعٍ تاريخيّ للمشروع الصهيونيّ، وبالتالي وضع أسس في فهم العلاقات المختلفة مع المستعمِر، عند كلّ تقسيمةٍ استعمارية جغرافيّة في فلسطين: الداخل الفلسطينيّ؛ قِطاع غزّة؛ الضفّة الغربيّة؛ القُدس؛ الشتات. أدار الجلسةَ وعقّب على المداخلات الدكتور صالح عبد الجواد المحاضر في جامعة بير زيت.
بدأ اليوم التالي، السبت، بجلسة مراجَعات لمقالات نظريّة في مجال الاستعمار الاستيطانيّ من منظور مُقارن. وقد تحدّث خلالها عضوا الورشة مَي همّاش طالبة الماجستير في الدراسات الإسرائيليّة، ووليد حبّاس طالب الدكتوراة في علم الاجتماع، حول فاعليّة الشعوب الأصلانيّة في التاريخ، وتكوُّنها كشعوب واعية لذاتها. تناوَلا كذلك العلاقات الأصلانيّة -الاستعماريّة، ومحددِّات تلك العلاقات لدى مُنظِّرين آباء في هذا المجال. خلال ذلك ناقشوا السؤالين: هل منطقُ الإبادة وحده يحكم علاقات الأصلانيّ -المستعمِر؟ وهل لدى هذا المنطق أشكال أخرى غير الإبادة المادّيّة والفيزيائيّة؟ نوقش في الورشة منطق الإبادة الذي تحدّث عنه المنظّر باتريك وولف، في أشكال عديدة، اقتصاديّة وثقافيّة وسياسيّة، لكي تجري مُقاربته فلسطينيًّا.
في الجلسة التالية، طرح الدكتور عوض منصور إطاره النظريّ (البنْية المفاهيميّة) لتحليل النظم الاستيطانيّة الاستعماريّة في مسارها نحو التشكُّل كدول، من خلال توظيف ما كتبه تشارلز تيلي عن تطوُّر الدولة الحديثة في أوروبا، وعلى وجه التحديد تداخل عمليّة صنع الحرب مع عمليّة صنع الدولة. هذا المدخل يوضّح منهجيّة تحليليّة لفهم النظم الاستيطانيّة من حيث مراحلها، ومن حيث العوامل التي قد تسهم في بقائها أو انهيارها. ففي بعض الحالات، بقيت إلى اليوم مثل حالة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، بينما فشلت في روديسيا (زمبابوي اليوم)، وإلى حدّ ما في حالة نظام الأﭘـارتهايد في جنوب أفريقيا. وهناك حالتان ما زالتا غير محسومتين، هما إيرلندا الشماليّة والحالة الصهيونيّة. جرى التركيز على بعض هذه الحالات الاستيطانيّة الاستعماريّة من خلال عرض بعض العوامل التي أثّرت على مسارها، والتي ما زالت في بعض الحالات تؤثّر على تحديد مسارها كنُظُم وكدول. من بين هذه العوامل: العامل الجغرافيّ (الجيو-سياسيّ والجيو-إستراتيجيّ)، ومدى تداخل عمليّتَيْ صنع الحرب وصنع الدولة الاستيطانيّة الاستعماريّة، وكذلك عدد المستوطنين مقابل عدد أفراد الشعب-الشعوب /الأمّة-الأمم، حيثُ يساهم تشخيص مسار وبنْية هذه الحالات في توضيح كيفيّة التعامل معها، وإمكانيّة التغيير.
اختتمت الورشةَ الأستاذة الدكتورة نادرة شلهوب -كيفوركيان رئيسة الهيئة الإداريّة في إدارة مدى الكرمل في محاضرتها حول أطروحتها النظريّة الجديدة، عن الميكانيكيّات الاستعماريّة الاستيطانيّة وممارستها للعنف والسيطرة على الطفل الفلسطينيّ، وبالتالي خلقِها لحيّز إبادة فعليّ للطفل في فلسطين. وقد طوّرت آليّات لفهم هذا العُنف من خلال تتبُّع كلام وممارسات الأطفال إزاء هذا الميكانيكيّات، حيثُ أشارت إلى عدّة تجارب مرّ فيها الطفل الفلسطينيّ من تحرير جُثمان الشهيد نسيم في القدس، أو تجربةٍ مرّت فيها طفلة أثناء هدم بيت عائلتِها. من خلال التحامها المباشر -كباحثة-في الفضاءات الشخصيّة للعائلة وللطفل، تتمكّن شلهوب -كيفوركيان من مقاربة العنف بشكله الحقيقيّ. وما أضافته الأستاذة الدكتورة نادرة هو فهم آليّات المقاومة لدى الطفل، في تحليل الفعل الاجتماعيّ للأطفال في سياقات حضور المستعمر فيزيائيًّا عند باب العمود في القدس على وجه التحديد.