محاضرة “الوباء والعنف البنيويّ في سياق استعمار استيطانيّ” للمحاضر أسامة طنوس، طبيب الأطفال، وطالب اللقب الثاني في مجال الصحة الجماهيريّة هي المحاضرة الثالثة من سلسلة محاضرات السياسة في زمن الكورونا التي أطلقها مركز مدى الكرمل. افتتح أسامة محاضرته بالحديث عن أهدافها في وضع قراءة مركبة للواقع الذي نعيشه وراء تقاطع العناصر الثلاث: وباء الكورونا، العنف البنيويّ والاستعمار الاستيطانيّ في فلسطين، ومحاولة تحديد هياكل القوى وأنظمة القمع التي كشفها الوباء.
يقول طنوس أنّ ما يخلق المرض في الطبّ هو التقاطع بين ثلاثة مركّبات، هي: المُسبّب للمرض (الفيروس أو الجرثومة)، الجسم المستضيف، والبيئة التي يتمّ فيها التفاعل بين المركّبين الأولين. قد يبدو انتشار الأوبئة ظاهرة طبيعيّة في الحياة، إلّا أن دافيد هارفي يدفعنا لإعادة التفكير في ذلك بقوله أنّ الكوارث الطبيعية غير موجودة فعلًا. صحيح أن الفايروسات موجودة في الطبيعة عند البشر والحيوانات، لكنها دائمًا ما تمرّ بطفرات نتيجة لظروف من صنع البشر، والتي تحوّلها لطفرات مدمّرة ومميتة بهذا الشكل. ذكر طنوس أنّ الموجة الأخيرة من الأوبئة التي عانى منها البشر انتقلت كلّها من الحيوانات إلينا، وذلك نتيجة للتدخّلات البشريّة الرأسماليّة في الغالب، والتي دمّرت البيئة وحوّلتها لبيئة غير طبيعيّة لتنشأ بذلك أنواع أكثر عنفًا من الفيروسات بعد مرورها بطفرات بسبب التفاعل غير الطبيعيّ بين البشر والحيوانات، كما حدث في بالصين ووباء كوفيد-19 اليوم.
ساعد فيروس كورونا في الكشف عن الفجوات الصحيّة بين الناس، فليس جميع المستضيفين والحاملين للمرض يتأثّرون من الفيروس بشكل متساوي كما أشار طنوس. بيّنت الإحصائيّات أنّ الأشخاص الحاملين لمرض معيّن، كالقلب والسرطان، والأشخاص الأكبر سنًّا هم من يقعون في دائرة الخطر أكثر من غيرهم. ومع ذلك فلا أحد يعرف كيف تتوزّع الفجوات الصحيّة عامّة، فالمجتمع العربيّ مريض أكثر من اليهوديّ. فمن ناحية، يعاني المجتمع العربيّ من نسب مرتفعة أكثر من أعداد المصابين بجميع الأمراض، ومن ناحية أخرى تسعة من أصل عشر بلدات مع نسب الوفيات الأعلى هي بلدات فلسطينيّة.
تناول طنوس النظريات التي حاولت تحليل الوضع الصحيّ السيء لجميع السكّان الأصلانيّين في مناطق مختلفة من العالم، حيث تراجعت النظرية التي نسبت ذلك لأسباب بيولوجيّة، أو لتصرّفات ومعتقدات الأصلانيّين مقابل النظرية البيئيّة الاجتماعيّة التي فسّرت نشوء هذه الفجوات نتيجة للعنصرية، والسياسات العرقيّة. ساهمت النظرية المذكورة في تحديد العوامل المؤثّرة على معطيات الصحّة، المرض والإعاقة الخاصّة بنا. بدايةً من الصدمة النفسيّة التاريخيّة، سياسات الإقصاء الاجتماعيّ والاقتصاديّ، العيش في بيئة أكثر خطرًا، تدمير البيئة والاغتراب عن الأرض وما يتبع ذلك من تغيير في التغذية، الحركة وعلاقتنا وسيادتنا بالأرض. أضف إلى ذلك، التعرّض اليوميّ للعنصرية والإقصاء والضغوط النفسيّة وتأثيرها على جسمنا. أيضًا، مناليّة الخدمات الصحيّة، نهايةً التسويق بشكل انتقائيّ.
حاول طنوس تطبيق هذه النظرية على تجربة الحياة الكاملة للفلسطينيّين من النكبة، إلى الحكم العسكريّ، إلى سياسات الإقصاء ومصادرة الأراضي، التهميش وفقدان السيادة على أرضنا، ميزانيّات المدارس والجامعات والمعاشات بشكل عام، حتى اغترابنا كلّيًّا عن الأرض، الماء، البيئة والزراعة التي كانت لدينا، للتعرض اليوميّ للعنصرية على مستوى الفرد الواحد، وعلى مستوى سياسات دولة، وسياسات توزيع الأراضي أو توزيع الثروات، والخدمات الصحّيّة، وكلّ ما يلعبه ذلك في تكويننا.
يكشف طنوس عن أبحاث أثبتت وجود علاقة بين تعرّض الإنسان للعنصرية، ومدى وعيه بهذه العنصرية وبين الأمراض التي يصاب بها على اختلافها. ليس ذلك وحسب، بل وأثبتت أبحاث أخرى أنّ العنصرية تستطيع اختراق أجسامنا والتأثير على الشيخوخة البيولوجيّة لها، هذا يجعل أجسامنا أكثر مرضًا بشكل واضح. من جهة أخرى يطرح طنوس تفسيرًا إضافيًّا للفجوات الصحيّة من خلال الطبقيّة الرفاهيّة والعرقيّة التي قامت قوى سياسيّة استعماريّة بهندستها، ممثّلًا بالبيض والسود في الولايات المتحدّة، وبالفقر العرقيّ الذي تعاني منه بلداتنا الفلسطينيّة في الداخل. ويلخّص أنه يمكن قراءة صحّة جميع المجتمعات المهمّشة والمقموعة كتجلّي لكلّ هذه الظروف غير الطبيعيّة على الإطلاق، مما يحوّل الفيروس لفيروس أكثر فتكًا وخطرًا في هذه المجتمعات، ويوضّح أنّ الأوبئة وضررها غير طبيعيّين بالضرورة.
يستعرض طنّوس المركّب الثالث، وهو البيئة وتأثيراتها على انتشار المرض. كلّما كانت البيئة أكثر ازدحامًا: في البيوت، الحارات والبلدات، وكلّما توفرت خدمات صحّة ونظافة أقل، ماء أقل، كلّما تحوّل الفيروس لفيروس قاتل ومميت أكثر. موضّحًا أنّ كلّ بلدة فلسطينيّة هي عبارة عن كتل إسمنتيّة متراصّة لا تحتوي على مساحات واسعة أو خضراء، بالتالي لا يمكن اعتبارها بيئة سليمة للحياة، أو بيئة طبيعيّة، فهي نتيجة لسياسات إقصاء، وسياسات مصادرة أراضي، وتهميش.
انتقل طنوس للحديث عن العنف البنيويّ، وعرّفه بأنّه وعلى عكس العنف الجسديّ الذي هو عنف واضح وصارخ، العنف البنيويّ هو عنف صامت. العنف البنيويّ هو أن تقتل التراتبيات والهرميّات المجتمعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة الناس، وتتسبّب بضرر أكثر من العنف العادي، ولكن بطريقة صامتة للغاية إلى حدّ نعتاد عليه. استشهد طنوس بقول أنجلز، بأنّ الموت عن طريق العنف البنيويّ هو موت عن طريق الحرمان أكثر منه عن طريق الفعل، فلو كان هناك توزيع عادل للثروات، للخدمات الاجتماعيّة، ولفرص العمل، ولكلّ مسببات العنف البنيويّ لكان بالإمكان تفادي الموت. وقد عرض لرأي جوهان جالتون المنظّر والباحث النرويجيّ عندما قال بأنّ العنف البنيويّ يخلق فرقًا بين الواقع والواقع المُفترض بسبب الفروقات والفجوات الصحّيّة في المجتمعات، التي يخلقها النظام المجتمعيّ والمبنى الهرميّ التراتبيّ عن طريق المعاناة والمرض الغير ضروريّين. ليخلص في النهاية إلى أنّ هذه النظريات عليها أن تعيد ترتيب تساؤلاتنا عن أسباب موت الفلسطينيّ.
أنهى طنوس محاضرته بالحديث عن مصطلح الأوبئة المصطنعة التي تحدّث عنها فيركو، أحد الآباء المؤسسين للصحّة العامّة، ونوّه إلى أنّ المصطلح لا يعني أنّ الدولة قامت بصنع الأوبئة، بل أنّ الظروف التي أدّت إلى انتشار الأوبئة بهذه الطريقة هي من صنع الدولة. كانت نظريات فيركو الطبّيّة تسعى للعدالة الاجتماعيّة من خلال الإصلاحات السياسيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ووجب الذكر أنّ المبنى الهرميّ والقمعيّ يتعرّى أمام الأوبئة والكوارث الطبيعيّة ويصبح أكثر عنفًا، وتتجلّى الحقيقة عندما تكون أعداد الموتى من السكان المهمّشين والفقراء أكبر من الفئات الأخرى. وقد تطرّق طنوس للعديد من الأمثلة على المستوى العالميّ التي تثبت ذلك، منها: موجة الحرّ الشديد في شيكاغو عام 1995، وإعصار كاترينا، والتيفوس الوبائي في سيليزيا العليا، وغيرها من الأوبئة، والهزّات الأرضيّة، وطبعا كورونا. وقد ختم طنوس محاضرته بالحديث عن مجتمعات الفائض التي تصنّفها الرؤية الرأسماليّة كفئات لا تحتاجها الدولة ويمكن الاستغناء عنها، وهو منطق نيوليبراليّ استعماريّ مشوّه وقبيح.