صدر عن مركز «مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة والتطبيقيّة»، كتابًا بعنوان «الأرشيفات في إسرائيل والرواية التاريخيّة الإسرائيليّة والنكبة: كشف النقاب عن التقير الّذي يدحض الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة»، من تأليف الباحث محمود محارب.

يكشف الكاتب، من خلال عدّة محاور، النقاب عن التقرير الّذي يدحض الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة، وذلك من خلال التفكير بالأرشيفات الإسرائيليّة بوصفها أداة لبَلْوَرة أساطير حول تاريخ تأسيس الدولة وحرب عام 1948، إذ رسمت هذه الرواية صورة ورديّة عن إسرائيل ملخَّصُها أنّها ضحيّة ومُحِبّة للسلام. يتضمّن المحور الثاني في الكتاب تأثير عمل المؤرّخين الجدد، كتاباتهم وأبحاثهم على الرواية الورديّة الّتي بنتها إسرائيل؛ حيث أنّ ما كتبوه ونقلوه خَرَجَ عن هذه الرواية وأسهَمَ في دحضها وتقويضها. كذلك تطرّق المحوران الثالث والرابع إلى سيرورة إغلاق وثائق في الأرشيفات الإسرائيليّة تناقضت مع الرواية التاريخيّة الإسرائيليّة وتتعلّق خصّيصًا بالصراع العربيّ – الإسرائيليّ والقضيّة الفلسطينيّة والنكبة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.
________________________________________________________

بن ﭼـوريون والطرد ومحاولات الإخفاء

لم يكن موضوع طرد الفلسطينيّين، عشيّة حرب 1948، أحجية لدى قيادة الحركة الصهيونيّة وقيادة «اليِيشوﭪ» في فلسطين، بل كان ذلك أمرًا مفروغًا منه وبديهيًّا، ولا بدّ من تنفيذه كجزء من عمليّة إقامة الدولة اليهوديّة في فلسطين؛ فمن دون طرد الفلسطينيّين لن تكون هذه الدولة دولة يهوديّة، وإن اقتصرت هذه الدولة على المنطقة الفلسطينيّة الّتي خصّصتها «الأمم المتّحدة» للدولة اليهوديّة وفق قرار التقسيم، وإنّما ستكون دولة ثنائيّة القوميّة يشكّل الفلسطينيّون أغلبيّة فيها، وهذا ما كانت الحركة الصهيونيّة ترفضه بشدّة.

لقد حرص ديفيد بن ﭼـوريون، مؤسّس إسرائيل وقائد عمليّة طرد الفلسطينيّين، كلّ الحرص على إخفاء أدلّة مكتوبة بشأن القرارات الّتي اتّخذها هو وحكومته وقيادة «الهَـﭽَـناه» والجيش الإسرائيليّ، وعدم إبقاء هذه الأدلّة. وفي كثير من الحالات اكتفى بالتعبئة الشفويّة بضرورة طرد الفلسطينيّين، وبالتعليمات الشفويّة، وبالإيماءات المباشرة وغير المباشرة في ما يخصّ تنفيذ عمليّات الطرد. كذلك حرص بن ﭼـوريون على إخفاء أيّ دليل على دوره في طرد الفلسطينيّين عند نشره مذكّراته ويوميّاته وكتبه المختلفة. على الرغم من هذا، الكثير من المصادر والمراجع الإسرائيليّة كشفت في العقود الماضية عن حقيقة سياسة بن ﭼـوريون في ما يخصّ طرد الفلسطينيّين، ومن المهمّ الإشارة إلى بعضها باقتضاب.

حرص ديفيد بن ﭼـوريون، مؤسّس إسرائيل وقائد عمليّة طرد الفلسطينيّين، كلّ الحرص على إخفاء أدلّة مكتوبة بشأن القرارات الّتي اتّخذها هو وحكومته وقيادة «الهَـﭽَـناه» والجيش الإسرائيليّ، وعدم إبقاء هذه الأدلّة…

كتب المؤرّخ وعالم الاجتماع الإسرائيليّ أوري بن إلِيعزر عن سياسة بن ﭼـوريون بشأن طرد الفلسطينيّين قائلًا: “لعلّ الظاهرة الاجتماعيّة المثيرة جدًّا للاهتمام حول الاحتلالات وعمليّات الطرد هي حقيقة عدم إعلان هذه السياسة على نحو واضح، وعدم تدوينها، ومع ذلك عرف الجميع عن وجودها. في أغلبيّة الحالات، لم تُصدر القيادة السياسيّة أو ’الهيئة العامّة لأركان الجيش الإسرائيليّ، قبل العمليّة أو خلالها، أيّ تعليمات بشأن مصير السكّان العرب، لكنّ عمليّات الطرد نُفّذت. في حقيقة الأمر، لم يكن القادة الشباب في الجيش وفي «الـﭙَـلْماح» بحاجة إلى تعليمات فعليّة، لا شفويًّا ولا كتابيًّا؛ لأنّهم كانوا يتحرّكون بتأثير الأيديولوجيا العسكريّة، الّتي صيغت في السنوات الاثنتي عشرة الماضية، واعتُبر وفقها احتلال القرى وقتل السكّان وطرد المتبقّين منهم عملًا منطقيًّا أو ضروريًّا، وتنفيذًا لعمل عسكريّ يتغلّب على الاعتبارات الأخلاقيّة، وبالتأكيد عند الحديث عن أهداف قوميّة”.

وساق بِن إليعزر العديد من الأمثلة عن الروح الّتي كانت سائدة في صفوف القوّات العسكريّة اليهوديّة خلال حرب عام 1948، ولا سيّما في صفوف «الـﭙَـلْماح»، ووضّح من خلالها كيف قتلت القوّات العسكريّة اليهوديّة الفلسطينيّين وطردت من تبقّى منهم دونما حاجة إلى إصدار أوامر عسكريّة مكتوبة، فذكر مثلًا في هذا الصدد أنّ قوّات «الــﭙَـلْماح» احتلّت في شباط (فبراير) عام 1948 قرية قيسارية، “وذبحت أغلبيّة سكّانها، وطردت الباقين، ودمّرت القرية”، وقد جرى ذلك قبل عمليّات الطرد الكبيرة المخطّطة. ولاحظ بن إليعزر أنّه بينما كان بن ﭼـوريون وقادة الجيش ينفّذون سياسة طرد الفلسطينيّين على أرض الواقع، ظلّ بن ﭼـوريون هو وزملاؤه طيلة أيّام الحرب يطرحون في العلن خطابًا معتدلًا، “يُظهر إسرائيل شعبًا يتوق إلى التوصّل إلى سلام مع العرب، وإلى عقد حلف معهم”. وعندما كان بعض الوزراء يسألون بن ﭼـوريون عن طرد الفلسطينيّين أو قتلهم أو تدمير قراهم، كان بن ﭼـوريون يدّعي – على نحو ما يؤكّد بِن إليعزر – أنّه “لم يسمع ولم يعرف ولم يرَ”، وهو الّذي كان “يهتمّ بأدقّ التفاصيل في كلّ ما يتعلّق بالمجال العسكريّ”، ويعرف كلّ شاردة وواردة تتعلّق بالجيش ونشاطه.

منفّذو الأوامر

وأشار المؤرّخ الإسرائيليّ يِـﭽِـئال عِيلام، في كتاب له، أنّ الّذين يحرّكون التاريخ في المفترقات التاريخيّة الـمهمّة، هم ’منفّذو الأوامر‘ الّذين يدركون جيّدًا أهداف القيادة، وخلص إلى أنّه لم تكن ثمّة ضرورة أن تُصدر القيادة الإسرائيليّة في حرب عام 1948، أوامر تقضي بطرد العرب الفلسطينيّين، وذلك لوجود ’منفّذي الأوامر‘؛ أي قادة وضبّاط وجنود «الهَـﭽَـناه» و«الـﭙـَلْماح» والجيش الإسرائيليّ، الّذين كانوا يعرفون جيّدًا أهداف القيادة الإسرائيليّة ورغباتها، وما تريده منهم أن يفعلوه، ويعرفون كيف ينفّذون ذلك دون الحاجة إلى أوامر. وهذا ما أكّده أيضًا قائد المنطقة الشماليّة في حرب عام 1948 موشيه كرمل في هذا الشأن، الّذي قال: “بشكل عامّ، لم يكن بن ﭼـوريون يختتم حديثه بإصدار أمر. إنّه كان يثق بأنّك فهمت قصده، وأنّك تعرف ما يجب فعله”.

وأكّد المؤرّخ الإسرائيليّ ميخائيل بار زوهر، الكاتب الرسميّ لسيرة حياة بن ﭼـوريون، أنّ بن ﭼـوريون “لم يُصدر أمرًا رسميًّا بشأن أيّة عمليّة مخطّطة تهدف إلى طرد العرب الّذين لم يهربوا، بيد أنّه أومأ بذلك إلى ضبّاطه وجنوده”. ويضيف بار زوهَر، استنادًا إلى مقابلة أجراها وقتذاك مع يتسحاق رابين، أنّه لا يزال “محفورًا في ذاكرة رابين النقاش الّذي جرى في هيئة قيادة «عمليّة داني»، بعد احتلال اللدّ والرملة. لقد احتُلّت المدينتان في عمليّة التفاف، ولم يهرب العرب منهما، نحو 60,000 بقوا فيهما. ماذا نفعل بهم؟ لقد طرح هذا السؤال قائد العمليّة يِـﭽِـئال ألون في النقاش الّذي كان من بين المشاركين فيه ’يِسْرائِيل‘ ﭼـَليلي و’يِـﭽِـئال‘ يَدِين ويتسحاق رابين. لقد تحدّث المشاركون في النقاش، وقال بعضهم إنّه يجب طرد العرب. بن ﭼـوريون لم يتحدّث. جلس صامتًا واستمع إلى أقوال المشاركين دون أيّ ردّ منه. وانتهى النقاش دون نتائج، ثمّ طُرح موضوع آخر على جدول الأعمال. وفي هذه المرّة، شارك بن ﭼـوريون في النقاش. وعندما انفضّ الاجتماع، خرج رابين وألون معًا بصحبة بن ﭼـوريون. ألون سأل بن ﭼـوريون: “ماذا نفعل مع العرب؟”، وحسب ما قاله رابين، حرّك بن ﭼـوريون يده إلى الخلف بشدّة، وقال: “اطردهم”.

يشير المؤرّخ الإسرائيليّ آدم راز إلى وجود الكثير من الشهادات، الّتي تُظهر الفرق بين سياسة بن ﭼـوريون العلنيّة (…) وسياسته الفعليّة الّتي كانت تنفَّذ على أرض الواقع، وإلى وجود شهادات تؤكّد سياسته الفعليّة، وعدم التزامه بقول الحقيقة في مذكّراته…

وأشار المؤرّخ الإسرائيليّ آدم راز إلى وجود الكثير من الشهادات، الّتي تُظهر الفرق بين سياسة بن ﭼـوريون العلنيّة الّتي كان يصرّح بها، وسياسته الفعليّة الّتي كانت تنفَّذ على أرض الواقع، وإلى وجود شهادات تؤكّد سياسة بن ﭼـوريون الفعليّة، وعدم التزامه بقول الحقيقة في مذكّراته.

ويسوق راز مثالًا على ذلك، ما قاله موشيه كرمل قائد الجبهة الشماليّة في حرب عام 1948، بعد نشر مذكّرات بن ﭼـوريون، وملخّصه أنّ بن ﭼـوريون تجنّب قول الحقيقة في مذكّراته في كثير من الأحيان، وأنّ موشيه كرمل أكّد أنّ “خبراء مختصّين بمذكّرات بن ﭼـوريون” أكثر منه “وجدوا فيها الكثير من النواقص وعدم الدقّة وعدم قول الحقيقة”، وأنّ بن ﭼـوريون كان معنيًّا أن يثبّت موقفًا تاريخيًّا في هذه القضيّة أو تلك، وإن لم يكن يتلاءم مئة بالمئة مع واقع تلك الأيّام”.  وفي هذا الصدد أكّد مُرْدخاي مَكلِف، أحد قادة الجبهة الشماليّة في حرب عام 1948، الّذي أصبح لاحقًا ثالث رئيس لـ «هيئة أركان الجيش الإسرائيليّ»، أنّ بن ﭼـوريون كان يميّز بين مواقفه وممارساته الفعليّة، وما “يتركه للتاريخ”، وأنّه كانت لِبِن ﭼـوريون “حواسّ تاريخيّة قويّة جدًّا”، وأنّه كان حذرًا شديد الحذر بشأن موقفه في “الأمور الّتي تُكتب”.

الأكاديميا في خدمة الدولة

لم تكتفِ القيادة الإسرائيليّة بإخفاء الأدلّة المتعلّقة بطرد الفلسطينيّين، وكلّ ما يتناقض مع روايتها التاريخيّة، بل حاولت تعزيزها بتلفيق أبحاث ودراسات تدعم روايتها التاريخيّة الكاذبة، فعلى سبيل المثال، طلب بن ﭼـوريون – رئيس الحكومة ووزير الأمن والمسؤول الأوّل عن طرد الفلسطينيّين وارتكاب المجازر ضدّهم – إلى «معهد شيلُوَاح» في سنة 1961، في أعقاب ضغط الرئيس الأمريكيّ جون كنيدي (1960-1963) على إسرائيل؛ لقبول عودة جزء من اللاجئين الفلسطينيّين إلى ديارهم، القيام بإعداد ’دراسات‘ تُثبت ما يلي:

“أ- ثمّة قيادات عربيّة في فلسطين وخارجها، وهيئات عربيّة وفلسطينيّة، شجّعت العرب الفلسطينيّين على الفرار من فلسطين في حرب عام 1948.

ب– الجيوش العربيّة والمتطوّعون العرب ساعدوا الفلسطينيّين على الهرب، سواء أكان ذلك بإخلائهم قرًى عربيّة من أهلها أم بعلاقاتهم السيّئة بالفلسطينيّين.

ج– ساعد الجيش البريطانيّ الفلسطينيّين على الهرب في عديد من الأماكن.

د– بذلت مؤسّسات ومنظّمات يهوديّة جهدها لمنع الهرب”.

استجاب «معهد شيلواح» لطلب بن ﭼـوريون، وكلّف عددًا من الباحثين الإسرائيليّين فيه بتنفيذ ما أراده بن ﭼـوريون. وكان من بين الّذين عملوا في هذا المشروع روني ﭼـباي، وموشيه مَعُوز،  وأوري شتندل.  وفي بداية عمله، توجّه معوز إلى ديفيد كِمْحي (أحد كبار موظّفي جهاز «الموساد» آنذاك)، وطلب منه المساعدة في جمع الوثائق. وشرح مَعُوز في رسالته إلى كِمْحي: “إنّ هدفنا هو إثبات أنّ الهرب حصل بتشجيع من القيادات العربيّة المحلّيّة والحكومات العربيّة، وبمساعدة البريطانيّين، وضغط الجيوش العربيّة على السكّان المحلّيّين”.

إلى جانب تعمُّد المؤسّسة الإسرائيليّة تلفيق أبحاث ودراسات تثبت روايتها التاريخيّة، قطعت شوطًا كبيرًا في محاولة التمادي في قلب الحقائق، وفي التنكّر لما كانت قيادة المؤسّسة الإسرائيليّة نفسها قد اعترفت بحدوثه…

إلى جانب تعمُّد المؤسّسة الإسرائيليّة تلفيق أبحاث ودراسات تثبت روايتها التاريخيّة، قطعت شوطًا كبيرًا في محاولة التمادي في قلب الحقائق، وفي التنكّر لما كانت قيادة المؤسّسة الإسرائيليّة نفسها قد اعترفت بحدوثه آنذاك، فعند ارتكاب منظّمتَي «إيتسل» و«ليحي» مجزرة دير ياسين في الـ9 من نيسان (إبريل) عام 1948، بمساعدة فعّالة من «منظّمة الهـَﭽَناه»، أقرّت قيادة «الييشوﭪ» المنظّم بقيادة بن ﭼـوريون بوقوعها. وعلى الرغم من ذلك، نشرت وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة في سنة 1969 كرّاسًا باللغة الإنـﭽـليزيّة كتبه يعقوﭪ موريس، وزّعته على جميع سفاراتها في العالم، فيه نفت حدوث مجزرة دير ياسين، بل لقد ادّعى هذا الكرّاس أنّ مجزرة دير ياسين لم تحدث إطلاقًا، ولم تكن سوى أكذوبة عربيّة من نسج الخيال العربيّ.