شغل موضوع النساء والعمل لدى النساء الفلسطينيات من مناطق الـ1948 مؤخراً حيّزاً واسعاً من الدراسات التي تحاول تحليل الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيّة للفلسطينيين في إسرائيل، كما حظي باهتمام واسع لدى السياسيّين والناشطات والناشطين في الجمعيّات الأهلية. لكن، في حين ينبع اهتمام الاكاديميّات/ين والسياسيين الفلسطينيات/ين والناشطات/ين في الجمعيّات الأهليّة الفلسطينية، المهتمّة بالقضايا النسائيّة والنسويّة، من قلق بشأن مكانة الفلسطينيين/ات الاقتصادية ومن محاولة المساهمة في تطوير المكانة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية لهذه المجموعة، يعود اهتمام السياسيين الاسرائيليين والحكومات الاسرائيلية (خصوصاً الحكومات الأخيرة) باقتصاد فلسطينيي الـ1948 الى قلقهم من كون الأوضاع الاقتصادية الصعبة للفلسطينيين في اسرائيل تشكل عائقا امام الاقتصاد الاسرائيلي الكلي وتنميته. ومن المرجّح أن هذا الاهتمام حصل نتيجة لضروريات الاندماج الكامل بالاقتصاد العالمي، في الأساس بسبب اضطرار اسرائيل الى الاستجابة لشروط عدد من المنظمات الدولية، منها، على سبيل المثال لا للحصر، منظمة التنمية والتعاون الدولية.
ثمّة أثر كبير للأُسس الأيديولوجيّة الصّهيونيّة في المكانة الاقتصاديّة للفلسطينيين عموماً وضمنهم الفلسطينيات. وترتكز هذه الأُسس، في الأساس، على مبدأ تجنيد الاقتصاد لمتطلبات النّفوذ اليهودي وضرورة تطوير الاقتصاد وتعزيزه، إضافة إلى تنظيم سوق العمل والسيطرة عليها (تهويد الاقتصاد والعمل)، إلى جانب السيطرة على الأرض وتغيير الميزان الديموغرافي. ويتلازم هذا مع حجب الموارد الاقتصاديّة عن مجموعة الأقليّة بهدف ضمان تعلّقها بالموارد الاقتصادية وبأماكن العمل التي تنتجها مجموعة الأغلبية أو الدولة. وتعتبر هذه جميعها شروطا ضرورية لإنجاح المشروع الصهيوني. ومن نافل القول ان المكانة الاقتصادية للنساء الفلسطينيات تنبثق بالضرورة من الواقع السياسي للفلسطينيين في اسرائيل، وانَّ دراسة الواقع الإقتصادي للفلسطينيّين بشكل عام، وللفلسطينيّات بشكل خاص، تكشف السياسات الحكومية تجاه الأقلية الفلسطينيّة على نحو دقيق.
تُعتبر نسبة انخراط النساء الفلسطينيّات من مناطق الـ1948 في سوق العمل شديدة الانخفاض؛ إذ تشير المعطيات الى أنّه خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة لم يطرأ تغيير ملحوظ على نسبة انخراطهن في سوق العمل، فقد كانت نسبه مشاركتهن فيها في عام 1995 نحو 18% فيما تصل اليوم الى 21% فقط. في حين تصل نسبة مشارَكة النساء اليهوديّات في سوق العمل اليوم إلى ما يعادل 60%، أي نحو ثلاثة أضعاف نسبة مشاركة النساء الفلسطينيات. وتُعتبر نسبة انخراط النساء الفلسطينيات في سوق العمل من النسب المنخفضة في العالم حتّى إذا قورنت بالعالم العربيّ؛ حيث يبلغ معدّل انخراط النساء في سوق العمل هناك (عام 2005) حوالى 33.3%.
يصعب تفسير هذه النسبة المتدنية ولا سيّما في ضوء التغيير الملحوظ الذي طرأ على متوسط سنوات التعليم للنساء الفلسطينيات. ففي غضون السنوات العشر الأخيرة، تمكّن الفلسطينيون في اسرائيل من تقليص الفجوة في عدد سنوات التعليم مقارنة بالأغلبية اليهودية ـ كان الفارق في متوسط عدد سنوات التعليم 7,4 في عام 1961 وتقلّص الى 1,5 في عام 2007، كما تقلصت هذا الفجوة بين النساء والرجال الفلسطينيين، حتى أنه في شريحة الشباب فاق متوسط سنوات التعليم لدى الشابات الفلسطينيات متوسط سنوات التعليم لدى الشبان الفلسطينيين ـ إلا أنه على الرغم من هذا الارتفاع في متوسط سنوات التعليم لدى النساء الفلسطينيات الذي كان من المفروض نظريًا أن يشكّل رافعة للدخول والانخراط في سوق العمل، بما يتوافق مع ما تبرهن الأبحاث عن وجود علاقة طردية بين سنوات دراسة النساء الفلسطينيّات ومشاركتهنّ في سوق العمل (تصل نسبة مشاركة النساء اللواتي درسن لمدة 16 سنة فما فوق إلى ما يقارب 70%)، بقي الازدياد في نسبة مشاركتهنّ لا يتلاءم مع ارتفاع متوسط سنوات التعليم، وبقيت نسبة مشاركة الفلسطينيات أقلّ من نسبة مشاركة الأكاديميّين العرب وأقلّ من نسبة مشاركة الأكاديميّات اليهوديّات. يُضاف هذا طبعا إلى المشاركة المنخفضة نسبيّا للنساء الفلسطينيّات اللواتي أنهين ما بين 13 و15 سنة دراسيّة مقارَنةً بالنساء اليهوديّات ـ 37% ـ 66% على التوالي.
تتعدّد الأسباب والتفسيرات في شأن المشاركة المتدنية للنساء الفلسطينيات في سوق العمل الإسرائيليّة، وتعزو معظمُ الدراسات والتحليلات الإسرائيليّة، إن كانت تصدر عن باحثين/ات في المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة أو تصدر بصورة نشرات دوريّة عن المؤسّسات الإسرائيليّة الرسميّة (بنك إسرائيل والدوائر الحكوميّة المختلفة ذات الصلة ومن ضمنها وزير المالية الحالي)، أسبابَ المشارَكة المنخفضة للنساء الفلسطينيّات في إسرائيل في سوق العمل إلى عوامل ثقافويّة وإلى بنيةِ المجتمع الفلسطينيّ التقليديّةِ، متجاهلة المعيقات السياسيّة والبنيويّة المرتبطة بعنصريّة الدولة ـ والتي سأتطرق اليها لاحقا في هذا المقال ـ التي تساهم، بشكل اساسي، في هذه الظاهرة.
تتلخّص العوامل الثقافويّة، التي تحاول تفسير هذه الظاهرة، في أنّ المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل مجتمع تقليديّ وذكوريّ تُقسم فيه الوظائف الاجتماعيّة بصورة تقليديّة، بحسب النوع الاجتماعيّ؛ حيث يقوم الرجل بمسؤوليّة إعالة العائلة، وتقوم المرأة بالمهامّ المنـزليّة والإنجاب ورعاية الأطفال. تقوم هذه العوامل بدَوْرٍ ما في تفسير الظاهرة، لكن ثمّة أسبابا أخرى تتعلّق بعنصريّة الدولة (العنصريّة التي تتجسّد في سياسات التمييز تجاه الأقلّـيّة الفلسطينيّة، كما في سياسات أخرى في مجالات شتّى) تُعزِّز هذه الظاهرةَ وتشكّل، في بعض الأحيان، عائقًا أمام حصول تغيُّر في مكانة المرأة الفلسطينيّة وتساهم في تعزيز دونيّتها.
تشكل شحة أماكن العمل في القرى والتجمعّات الفلسطينيّة احد اهم الاسباب التي تحول دون انخراط النساء في اسواق العمل الاسرائيليّة. ُيذكر ان 2,4% فقط من المناطق الصناعية في دولة اسرائيل موجودة في التجمعّات الفلسطينيّة، فعلى سبيل المثال تضم «نتسيرت عليت» (وهي مستوطنة بالقرب من الناصرة يصل تعداد سكانها إلى 42 الف مواطن) خمس مناطق صناعية تصل مساحة احداها (تسيبوري) إلى نحو ستة آلاف دونم وهي مساحة تفوق مساحة جميع المناطق الصناعية في المجمعّات الفلسطينية مجتمعة. في المقابل لا تتعدى مساحة المنطقة الصناعية في مدينة الناصرة (اكبر التجمعات الفلسطينية في اسرائيل ويصل تعداد سكانها ما يقارب 66 الفاً) 150 دونماً.
وفي حين تُعتبر الحكومة مشغِّلاً مركزيًّا للنساء، ولا سيّما الأكاديميّات، إذ إنّ 65% من العاملين في المكاتب والوزارات الحكوميّة المختلفة من النساء، لكن الوضع ليس على هذا النحو بالنسبة الى النساء الفلسطينيّات اللواتي لا يشكّلن إلا 3% من العاملين في المؤسّسات الحكوميّة، يسكن معظمهنّ في منطقة الشمال وحيفا.
ضعف شبكة المواصلات داخل التجمّعات العربيّة ـ منها وإليها ـ هو معيق إضافيّ أمام النساء؛ ويستدل من نتائج بحث عن شبكة المواصلات العامّة في التجمّعات العربيّة، إنّ ضعف شبكة المواصلات العامّة، من حيث توافرها ووتيرة حركة حافلات وسيارات النقل العامة، في التجمّعات الفلسطينيّة، يساهم في إقصاء المجتمع الفلسطينيّ عمومًا، والنساء على وجه التحديد، كما يضرّ بصورة أساسيّة بحقوقهنّ الاجتماعيّة ـ الاقتصاديّة، ويشكّل معيقا حقيقيّا لاحتمالات انخراطهنّ في سوق العمل. كما أنّ انعدام أطر الرعاية اليوميّة للأطفال قد يشكّل عائقًا حقيقيًّا إضافيًا أمام انخراط النساء في سوق العمل. ومن معايَنة لمعطيات وزارة الشؤون الاجتماعيّة يتضح أنّه من بين 1600 حضانة للرعاية اليوميّة للأطفال الذين لا يتجاوزون الثالثة تعمل في إسرائيل بدعم ماليّ من القطاع العام،ّ هناك 25 حضانة فقط تعمل في التجمّعات الفلسطينيّة.
ويساهم النقص في برامج التأهيل الملائمة للنساء الفلسطينيّات المواطنات في إسرائيل في وضع عقبة أخرى أمام انخراط النساء في سوق العمل، وتشير المعطيات الى أنّ معظم المدارس المهنيّة العاملة في القرى الفلسطينيّة تقوم بتوفير تأهيل مهنيّ تقليديّ للنساء، ولا تقدّم هذه المدارس التأهيل المهنيّ في المجالات التكنولوجيّة، وكذلك تقوم وزارة العمل والصناعة والتجارة بإدارة برامج تأهيل مهنيّة للعاطلين عن العمل، بَيْدَ أنّها لا تقدّم ما يكفي من الدورات التدريبيّة المخصّصة للنساء الفلسطينيّات. علاوة على هذا، فإنّ النساء اللواتي شاركن في هذه البرامج حصلن على تأهيل مهنيّ تقليديّ، حتّى عندما كانت برامج التأهيل التكنولوجيّة متوافرة. نتيجة لذلك، تتركّز النساء الفلسطينيّات في مهن ذات طابع «أنثويّ» حيث لا مجال للتطوّر المهنيّ، ولا متطلّبات لمهارات خاصّة، والأجور الممنوحة متدنّية. يُستدَلّ من هذه المعطيات أنّ للسياسات الإسرائيليّة المستشرقة المنتهجة تجاه النساء الفلسطينيّات دَوْرًا في تعزيز دونيّة المرأة الفلسطينيّة وعدم تقدّمها.
بالإضافة إلى هذه المعيقات المؤسّساتيّة، تلعب عنصريّة المجتمع الإسرائيليّ والمشغِّلين اليهود دورًا ما في عدم انخراط النساء الفلسطينيّات في سوق العمل. فعلى سبيل المثال، تبيِّن نتائح ابحاث نشرت في السنوات الأخيرة عن العنصرية وعمالة النساء، أنّه بالإضافة إلى شحّ فرص العمل ـ وهي التي تشكّل سببًا رئيسيًّا في عدم انخراط النساء الفلسطينيّات في سوق العمل ـ، تشكّل عنصريّةُ المشغِّلين اليهود سببًا إضافيًّا، فكثير من المشغّلين اليهود يمتنعون عن تشغيل العرب، ولا سيّما النساء، كما يشترط بعض المشغِّلين الخدمةَ العسكريّة، ومعرفةَ اللغة الروسيّة للمتقدّمات إلى العمل. هذا عدا عن العنصريّة والتمييز اللذين تواجههما النساءُ المحجّبات في توجّههنّ إلى العمل لدى مشغِّل إسرائيليّ. كلّ هذا يضاف إلى المسبّبات التي تعيق انخراط النساء الفلسطينيّات في سوق العمل الإسرائيليّ.
لا تقف اوضاع النساء الفلسطينيات المتردية، عند حقيقة أنّ نسبتهن خارج قوى العمل(*) تبلغ نحو 81% بل تتعدّى ذلك إلى مجال الأجور، إذ تشير المعطيات إلى أنّ هناك تمييزًا واضحًا في الأجور بين النساء الفلسطينيّات والنساء اليهوديّات. ويبلغ معدّل الأجر الشهريّ للنساء الفلسطينيّات 4350 شيكلاً، مقابل 6112 شيكلاً لليهوديّات. وتعمل النساء الفلسطينيّات ساعات أقلّ في الأسبوع 32,4 ساعة، في مقابل 35,7 ساعة للنساء اليهوديّات، وتتلقّى النساء اليهوديّات أجرًا أعلى عن الساعة الواحدة، يبلغ 41,5 شيكلا في مقابل 32,3 شيكلا تتلقّاها النساء الفلسطينيّات.
تتعدّد أسباب تدنّي مدى انخراط النساء الفلسطينيّات في سوق العمل، ويتحمّل المجتمع الفلسطينيّ جزءًا من المسؤوليّة تجاهها، لكن كما تبيّن من العرض أعلاه، فانَّ تدّني نسبة النساء الفلسطينيات في سوق العمل هو نتاج لعلاقة الدولة اليهودية وسياساتها بالأقلية الفلسطينية؛ فعنصريّةُ الدولة وسياساتُ التهميش والتمييز التي تنتهجها الدولة تجاه الأقلّـيّة العربيّة بعامّةٍ، تُشكّل العائقَ الأساسيَّ حيال تقدُّم المكانة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للمجتمع الفلسطينيّ بعامّة، وتساهم هذه السياسات، باستخدامها غطاء المبرّرات الثقافويّة كإحدى الآليّات، في إعادة إنتاج وتعزيز دونيّة المرأة الفلسطينيّة معيقةً بهذا تقدُّمَها الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
* خارج قوى العمل: كل من هن في سنّ العمل لكنّهن لا يعملن ولا يبحثن عن عمل، إمّا لعدم رغبتهن في العمل ـ لاستغنائهن عن المردود الماليّ الناتج عنه ـ أو لأسباب أخرى.
للمقالة الأصلية اضغط هنا.