عانى الفلسطينيون في اسرائيل منذ عام 1948، وما زالوا، من سياسات التهميش الاقتصادي والتمييز والاستغلال ومصادرة الموارد. وقامت إسرائيل، وما زالت تقوم بحجب الموارد الاقتصادية عن الفلسطينيين بهدف ضمان تعلّقهم بالموارد الاقتصادية وبأماكن العمل التي تنتجها مجموعة الأغلبية اليهودية أو الدولة. فمنذ إقامتها جندت دولة إسرائيل الاقتصاد في خدمة مشروع قومي وتعاملت معه كرافعة قوة مقابل الفلسطينيين. اما البرامج والخطط التي وضعت (على الورق) لتطوير الاقتصاد العربي، وتصريحات رجال السياسية في إسرائيل حول الحاجة لتطوير الاقتصاد العربي وتحسين الاحوال المعيشية للعرب، فلم تتعد كونها ضريبة كلامية، حيث لم ينتج عنها أي تحسين اقتصادي على ارض الواقع.
الا اننا بدأنا نلاحظ في السنوات القليلة الماضية خطاباً اقتصادياً جديداً تجاه الفلسطينيين في إسرائيل تسوق له الحكومات الإسرائيلية، بدءا من حكومة اولمرت الاخيرة (خاصة بعد الحرب على لبنان 2006) وتناميه في العام الاخير. ونجد بوادر سياسات اقتصادية ليبرالية نوعا ما، تسعى لتحسين بعض المؤشرات الاقتصادية لدى الفلسطينيين. وقد بدأت الحكومة بتنفيذ عدة خطوات على ارض الواقع تعكس تغييراً ما في السياسات الاقتصادية. ورغم ما يظهره الخطاب من تحول، إلا ان فهمه من خلال علاقته بأهداف السياسات الاقتصادية للدولة يوضح عدم وجود تغير جوهري في اهداف الدولة الاقتصادية تجاه الفلسطينيين، وان هذا التغير يتناسق مع مصالح الدولة أولاً وأخيراً ولا يشمل تغير السياسات في محاور بإمكانها خلق تنمية وتطوير اقتصادي مستدام ومستقل عن نيات الحكومة، بل يحافظ على تبعية الاقتصاد العربي ويتحكم بمقامات تطوره. فالسياسات الاقتصادية المنتهجة حاليا تجاه الفلسطينيين في الداخل هي استمرار للسياسات الاقتصادية المعمول بها منذ اقامة الدولة، لكن التغيير هو في احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي.
لم تعتبر دولة إسرائيل، حتى هذه الفترة، الأزمة الاقتصاديّة للفلسطينيين في الداخل، مشكلة عميقة ومقلقة، تلزم مبدأ الخيار بين بدائل سياسية صعبة. بل تعتبر الدولة هذه المسألة «مشكلة سهلة» لها حل واحد يكمن في الحفاظ على الوضع الراهن، الذي يتوافق مع الأيديولوجية ومصالح الأغلبية. في حال بدأت هذه المسألة تضرّ باقتصاد الدولة بشكل او بآخر، أو بمؤشرات الاقتصاد الكلي للدولة، أو في حال شكلت عائقًا أمام تطبيق السياسات الاقتصادية أو تحقيق أهداف سياسية للحكومة، قد تتحول هذه المشكلة عندها إلى «مشكلة تتطلّب علاجًا». كما حصل في بداية التسعينيات وكما يحصل في السياسات الحالية. فعلى ما يبدو باتت الأوضاع الاقتصادية الصعبة للفلسطينيين تشكل عائقا أمام تطور الاقتصاد الإسرائيلي الكلي وتنميته.
وفقا لتقارير رسمية نشرت في نهاية عام 2009، بلغ معدل الفقر العام في إسرائيل قرابة 25% من مجمل الأسر. وتشير المعطيات إلى ان العائلات العربية هي الأكثر فقرا، اذ بلغت نسبة العائلات العربية الفقيرة قرابة 50% من مجمل العائلات العربية (وتشكل 30% من مجمل العائلات الفقيرة في إسرائيل)، بينما تصل نسبتها إلى 15% لدى الأسر اليهودية (وتتمركز بالأساس لدى العائلات اليهودية المتدينة). معطيات الفقر لدى الأسر العربية تضاف إلى معطيات أخرى نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية بداية العام الحالي، تشير الى ان احتمالات الأسر العربية لتكون تحت خط الفقر هي الأكبر مقارنة بالأسر اليهودية؛ وان قرابة 50% من العرب تنازلوا عن وجبات غذاء بسبب الأوضاع المالية الصعبة.
هذه المعطيات ليست غريبة عن واقع الفلسطينيين في إسرائيل، اذ ان معدلات الفقر لدى الاسر العربية آخذة في الارتفاع منذ نهاية التسعينيات، ومعدلات البطالة أعلى من معدلها العام ومعدلات الدخل أقل من العائلات اليهودية. وقد ازداد معدل حالات الفقر في أوساط العائلات العربية ثلاثة أضعاف، منذ مطلع التسعينيات. اذ تشكل الأسر العربية الفقيرة، من مجمل الأسر الفقيرة في الدولة، قرابة ثلاثة أضعاف نسبتها العامة في الدولة (13% مقابل 34%). وبلغ معدل الدخل الشهري للعائلة في إسرائيل عام 2008 قرابة الـ 13,000 شيكل (ما يعادل 3500 $)، مقارنة بـ 7000 شيكل كمعدل دخل الاسرة العربية، اي قرابة 50% من دخل الاسرة اليهودية. ويصل معدل الدخل السنوي للفرد لدى الفلسطينيين إلى 8000 $ مقارنة مع 24000$ كمعدل في الدولة. ومستوى المشاركة في قوى العمل لدى الفلسطينيين 40% مقارنة مع 55% في الأوساط اليهودية.ومستوى مشاركة النساء الفلسطينيات في اسواق العمل يصل الى 19% فقط، مقابل قرابة 50% لدى النساء اليهوديات. ويصل مستوى البطالة لدى الفلسطينيين إلى 10% مقارنةً مع 6% في الأوساط اليهودية.
في ظل هذه المعطيات قامت الحكومة الحالية باتخاذ بعض الخطوات للتعامل مع الضائقة الاقتصادية للفلسطينيين، منها على سبيل المثال، إقامة هيئة حكومية خاصة لتطوير الاقتصاد العربي وإنشاء شركة للاستثمار في الاقتصاد العربي برأس مال 40 مليون دولار وضعت الحكومة منها مبلغ 20 مليون دولار، ووضع شريك من القطاع الخاص الحصة المتبقية. كما بدأ عدد من المؤسسات الإسرائيلية بالعمل في السنوات الأخيرة على دمج العرب في الشركات الإسرائيلية الخاصة وفي الصناعات المتطوّرة والمعرفية والمعلوماتية. وافتتحت بعض الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال الحوسبة فروعًا في البلدات العربية لتشغيل موظفين عرب. وهناك مبادرات من رجال السياسة وصنّاع القرار للقاء رجال أعمال عرب وشركات عربية، مثل لقاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمجموعة من رجال الأعمال العرب وزيارة رئيس الدولة شمعون بيرس إلى مدينة الناصرة العربية برفقة عدد كبير من رجال الأعمال اليهود، بغية مشاركة رجال أعمال عرب في تحديد احتياجات «الاقتصاد العربي» واتخاذ القرارات لتطوير الاقتصاد العربي.
التغيّر الأساسي في هذه الفترة هو أن مؤسسات الدولة باتت تعي أنه لا يمكن للاقتصاد الإسرائيلي أن يتطور من دون تطوير الاقتصاد العربي. من هذا المنطلق لم تعد تتعامل الدولة مع الاقتصاد على أنه لعبة فيها الغالب والمغلوب، والدولة تقبّل أن يكون الطرفان رابحين (win win game)، لكن بشرط أن يفوق ربحها ربح الطرف الآخر وأن تضمن مصالحها القومية أولا، ومن خلال دفع ثمن مقبول، مؤقت، لا يخرق أي توازن ولا يخلق علاقات قوى جديدة. هذا ما يفسر السياسات الاقتصادية الحالية تجاه الفلسطينيين في الداخل. بمعنى أن الحكومة الإسرائيلية تقبل بتطوير الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، لكن بشرط أن يكون ذلك تحت سقف احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي وبما فيه من مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي الكلي ويساعد على تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وان يكون التطور الاقتصادي جزءا يخدم أجهزة «الإشراف والرّقابة» المعمول بها تجاه الفلسطينيين في الداخل.
ومن المرجّح أن هذا التغيّر حصل نتيجة لضروريات الإندماج الكامل بالاقتصاد العالمي وبالأساس بسبب حاجة اسرائيل لاستجابة لشروط عدد من المنظمات الدولية. منها على سبيل المثال لا لحصر منظمة التنمية والتعاون الدولية. من هنا يمكن الاستنتاج ان:
– الحكومات الإسرائيلية تسعى الى رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد الواحد، رفع المشاركة في اسواق العمل، تخفيض البطالة والفقر العام في إسرائيل.
– يبلغ المعدل العام للناتج المحلي القومي للفرد الواحد في إسرائيل قرابة 28 الف دولار سنويا، مقابل 8000 دولار تقريبا لدى الفلسطينيين. ووصلت الحكومات الإسرائيلية، باعتراف مدراء سابقين لوزارة المالية ومحللين اقتصاديين بارزين في إسرائيل، إلى قناعة انه لا يمكن رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد ليصل إلى 33-34 الف دولار – ليقترب من معدلات الدول الصناعية – من دون رفع معدل الانتاج لدى الفلسطينيين في الداخل. إذ انه من ضروب الخيال رفع معدل الانتاج لدى المواطن اليهودي إلى 40 الف دولار سنوياً لكي يصل المعدل العام إلى 32 الف دولار مع ابقاء معدل الانتاج لدى العرب 8 الاف دولار. كون الاقتصاد الإسرائيلي استنفد الطاقات الكامنة في المجتمع اليهودي من حيث الانتاجية ومستويات التعليم والتشغيل.
– لا يمكن تخفيض معدلات الفقر والبطالة من دون خفضها لدى الفلسطينيين، اي من دون تطوير الاقتصاد الفلسطيني. كما لا يمكن رفع معدلات المشاركة العامة في اسواق العمل ما لم يتم رفع معدلات مشاركة النساء الفلسطينيات في اسواق العمل.
– يخسر الاقتصاد الإسرائيلي عشرات مليارات الدولارات نتيجة تدني الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في إسرائيل، كما اعلن رئيس سلطة تطوير الاقتصاد العربي في مؤتمر هرتسليا الاخير.
سعي إسرائيل الانضمام إلى منظات اقتصادية عالمية ورفع مكانتها الاقتصادية وتحقيق مصالحها الاقتصادية والقومية، يفرض عليها تحسين الاوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل ليكون رافعاً لتحسين مؤشرات اقتصادية اساسية. لكن الحكومات الإسرائيلية تعمل على ان يكون هذا التطور مشروطاً بمصلحة الاقتصاد اليهودي – الإسرائيلي وبخدمة الاقتصاد اليهودي، وأن يكون تحت سقف الحكومة الإسرائيلية ومن خلالها، وبشرط أن لا يخلق خللاً في توازن القوة الاقتصادية بين المجموعتين اليهودية والعربية، والاهم ان لا يرفع التطور الاقتصادي من سقف الاهداف والمطالب السياسية للفلسطينيين في الداخل. اذ كانت الحكومات الإسرائيلية دائما، مستعدة لدفع ثمن اقتصادي، بصيغة عدم تنمية الاقتصاد العربي بغية عدم تقديم ثمن سياسي لهذا التطور. اي ان سياسات الاحتواء ما زالت قائمة، وما زال الاقتصاد مجنداً في خدمة مشروع قومي استعماري يعمل لصالح المجتمع اليهودي، داخل دولة إسرائيل وخارجها. اذا، تغير السياسة الاقتصادية تجاه الفلسطينيين نابع عن حاجة وليس عن قناعة أو تغير في مكانة المواطنين العرب. وتعمل الدولة على تغيير شكلي في التعامل الاقتصادي من دون ان يكون لذلك إسقاطات على مكانة الفلسطينيين السياسية والقانونية، وهي تقوم بذلك من خلال شركاء فلسطينيين من القطاع الخاص من دون إشراك مؤسسات فلسطينية رسمية او شبهة رسمية، مثل «اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير العربية في إسرائيل» (وفق التسمية الرسمية للجنة) ومن دون إشراك أي من الأحزاب العربية. وبذلك تسعى الدولة الى الفصل بين الاقتصادي والسياسي وبين الاقتصادي والقومي في حالة الفلسطينيين في الداخل.
في مقابل التغير الشكلي بالسياسات الاقتصادية، تقوم الحكومية الحالية بتطبيق سياسة عدائية بشكل متطرف تجاه القومية الفلسطينية والهوية الفلسطينية وتسعى لفرض يهودية الدولة على الفلسطينيين في الداخل بواسطة القانون، وتزيد من التمييز المقونن وتقليص هوامش العمل السياسي، حتى على مستوى الافراد. فمنذ انتخابات عام 2009 تعالت الأصوات المنادية بلجم المركَّب القوميّ في هوية الفلسطينيّين وإخضاعهم لقواعد سلوكيّة سياسية «مقبولة» بواسطة القانون، وقمع الذاكرة الجماعيّة، وإجبار الفلسطينيين للتنازل عن المطالبة بحقوق جماعيّة لأقلـيّة قوميّة اصلية، والاكتفاء بحقوق فرديّة جزئية ومنقوصة.
لذلك، قد تكون السياسات الاقتصادية الحالية، جزءاً من محاولة الدولة «إقناع» الفلسطينيين في الداخل، عن طريق رجال اعمال او مشاريع في بعض المجالس المحلية العربية، بالتنازل عن النضال السياسي القومي والاكتفاء بالمطالب الاقتصادية الفردية اليومية وتحسين ظروف المعيشة، والقبول بالأمر الواقع وموازين القوى وبصيغة النظام الحالي. على الرغم من ان محاولات شبيهة قد فشلت في السابق ولم يتنازل الفلسطينيون عن النضال القومي الوطني بل ان حدة النضال ارتفعت وسقف المطالب السياسية والقومية المناهض والممانع للمشروع الصهيوني تغير من دون رجعة. بل بات الربط بين المدني والقومي، وبين الحالة المعيشية وطبيعة النظام جزءاً من الإجماع السياسي للفلسطينيين في الداخل. وتسود القناعة ان تغير المكانة المدنية والاقتصادية، والحالة المعيشة لن يتحقق من دون تغير طبيعة الدولة.
للمقالة الأصلية اضغط هنا.