عقد مركز مدى الكرمل في حيفا، في تاريخ 3/4/2014، ندوة على شرف صدور كتاب "المعرفة التاريخية في الغرب: مقاربات فلسفية، علمية وأدبية"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد شارك في الندوة كل من الدكتور محمود يزبك، والدكتور مسعود حمدان، والكاتب مرزو ق حلبي؛ كما وتحدث، في نهايتها، مؤلف الكتاب البروفسور قيس فرو.
افتتح الندوة د. محمود يزبك، عضو إدارة مدى الكرمل، مرحبًا بالحضور، ومشيرًا إلى الدور المتميز للبروفسور فرو في بحث التاريخ الاجتماعي السياسي، حيث نشر مقالات مختلفة في مجلات أكاديمية تعتبر من الأهم في العالم، ثم أصدر كتابا بعنوان "تاريخ الدروز"، وهو عبارة عن موسوعة شاملة عن تاريخ الدروز؛ وقد صنِّف الكتاب ضمن أهم الكتب البحثية في العالم، ولاحقا أصدر كتاب "الدروز في الدولة اليهودية"، والذي أشار د. يزبك أن قراءته مهمة لكل فلسطيني، وأنه من الظلم ألا يترجم إلى العربية. وقد صدر الكتابان في دار برل للنشر، وهي إحدى أهم دور النشر في العالم.
وحول الكتاب موضوع البحث، أشار د. يزبك إلى أنه الأفضل في إنتاج بروفسور فرو، وهو كتابه الأول الذي يصدر باللغة العربية، مؤكدًا على أن الكتابة في موضوع بحثه باللغة العربية أمر صعب جدا، لأن جميع المصادر التي يتناولها الكاتب بلغات أجنبية، والتعريب قد يجعل المصطلحات ثقيلة على السمع، ولكن برفسور فرو قام بجهد كبير لتعريب المصطلحات. وأما من حيث المضمون، فالكتاب يطرح فلسفة تاريخ المعرفة التاريخية؛ فالسؤال الذي يطرحه الكتاب، والذي يناقشه العاملون في التاريخ هو: هل التاريخ علم وله مقومات ومعايير علمية، أم إنه حرفة يحترفها الإنسان؟ يستعرض الكتاب المدارس التاريخية المختلفة ليسأل: هل التاريخ تفسير أو تأويل للواقع؟ ويستنتج الكاتب، بعد عرض طويل لنماذج التفسير والتاريخ في المدارس التاريخية، أن المؤرخ هو الذي يبني من المصادر حدثا تاريخيا، ويصبغ عليه أوصافًا جديدة ليصبح البناء متخيلًا؛ ويبقي فرو السؤال مفتوحا، ولكنه يتعامل معه بحرفية كبيرة محاولًا إيجاد إطار للإجابة.
وأشار د. يزبك إلى أن الكتاب يقوم بتلخيص مجموعة من أفكار أهم الفلاسفة الذين بحثوا في التفسير والتأويل. ومن أهم الفلاسفة الذين يتعرض بروفسور فرو لرؤيتهم في التاريخ دريدا، الذي يرى الباحث أنه يحاول الخوض، ليس في مدى مصداقية النص، وإنما في تناقضاته، ويتحدى كل منهجيات كتابة التاريخ إلى زمانه؛ وفوكو، الذي يرى الكتاب أنه لم يلغِ أهمية المصادر التاريخية، حيث استخدمها هو نفسه، ولكنه لم يهدف لبحث صدق المعلومة وإنما الخطابات المتمثلة بتعبيرات سردية تكوّن معًا المعرفة للحقبة التاريخية، والذي يرى بأن قراءة الأرشيف يجب أن تتم بشرط معرفة مسبقة بأنها تمثل صياغات خطابية للفاعلين في الماضي، وللمؤرخين في الحاضر.
أما الدكتور مسعود، المحاضر في جامعة حيفا في قسم المسرح، والمختص في المسرح الاحتجاجي وفي أدب محمد الماغوط ، فقد أشار إلى أن كتاب برفسور فرو يعالج عدة أسئلة مهمة في محورها: هل قُتِلَت كتابة التاريخ بمقصلة ما بعد الحداثة، أم أن التاريخ محكوم عليه أن يقتَل عند حدوثه؟ وماذا يمكن أن نقول عن الماضي؟ هل وظيفة المؤرخ أن يقول ما حدث، أو أن يتخيّل ما لم يحدث؟ وهل يمكن اعتبار عملية استحضار النص أو الحديث تفسيرا أم تشكيلا إبداعيا، وبناء قوالب؟ هل محاولات جعل التاريخ عِلمًا هي محاولات علمية، أم أن التاريخ هو كتابة تحتاج لتأويل؟ يتابع د. حمدان بأن الكتاب يواجه هذه الأسئلة بشمولية وسلاسة وبدون تسطيح، وبرصد وافٍ لقصة الكتابة التاريخية بالغرب، مستعرضا كافة المناهج والمدارس والأدوات التي تطرقت لهذا الحقل المعرفي. ومن أهم استنتاجاته أنه يمكننا الحديث عن مدرستين كبيرتين: الواقعية والمشككة النسبية، مع تفرعات لكل مدرسة. الأولى تعتقد أن المؤرخ يستطيع بناء حوادث الماضي من جديد عبر القرائن التاريخية، بينما تؤمن الثانية بأن الحوادث المبنية على القرائن وعلى سردية المؤلف لا يمكن أن تتطابق مع الأحداث كما حدثت، ولا تؤمن بالوصول إلى معرفة تاريخية موضوعية، وإنما هي ذات علاقة بالحاضر وسياقه. ويظهر، من خلال كتابه، أن المؤرخين سجينو سياقاتهم ولحظاتهم التاريخية وانتقائيتهم غير الموضوعية.
وبرأي د. مسعود، فإن الكتاب مساهمة أكاديمية قيمة جدا، لأنه اختزال لقصة كتابة التاريخ، والتي بها يعقل الإنسان الأمور؛ حيث يضع أمورًا غير مترابطة في إطار مترابط. وكون الكتاب بالعربية فإنه يعتبر مساهمة هامة بشكل خاص، حيث لم تصدر كتب كهذا في اللغة العربية من قبل.
وأما الكاتب مرزوق حلبي، ولكونه كاتبا، فقد بدأ بمقاربة الكتاب لغويًا، مشيرًا إلى الإسهام اللغوي الهام للكتاب؛ حيث، ولأن الباحث يخوض حقلا معرفيًا جديدًا، كان عليه أن يطور لغته في هذا الاتجاه. والكتاب يظهر لغة واثقة وقادرة على الإيصال، وهذا، برأيه، إثبات أن العربية قادرة إذا كان صاحبها قادرًا. والكتاب، يشير حلبي مجددًا، ليس بكونه منتجاً للمعرفة، وإنما لأنه يفكك نتاج المعرفة. فالمضامين المطروحة في الكتاب، عبر مئات المفكرين والفلاسفة، تستعرض التوتر على محاور عدة بين ثنائيات متعددة: ثنائية علمية الكتابة التاريخية مقابل عدم وجود تلك العلمية، والتوتر بين الحقب التاريخية والفلسفية، والحداثة مقابل ما بعد الحداثة، والحاضر والماضي، وثنائية الكاتب وموضوع كتابته. الكتاب يستعرض أيضا أثر الحقول المعرفية الأخرى على كتابة التاريخ، وهو هام في توضيح أثر الفلسفة، والنظريات اللغوية، وعلم الاجتماع على الكتابة التاريخية، متقصيًا، بدقة، انتقال الحديث عن التاريخ من كونه كتابةً أدبيةً إلى كتابة علمية، بجهد قلّما رأيناه باللغة العربية. الكتاب يأخذنا من حقبة إلى حقبة، ومن تناقض إلى تناقض، وفي طيّ صفحاته يصعد بنا ثم يهبط من اليقين إلى التشكيك؛ والكتاب ينتهي دون أن يسلمنا الباحث المفاتيح، ولكن، أشار حلبي إلى أنه اعتمادا على المناهج المطروحة بالكتاب موضوع البحث، يمكن إيجاد جواب السؤال من كتب بروفسور فرو السابقة، إذ يظهر أنه استفاد من كل المناهج، ويكتب التاريخ بكافة الأدوات مجتمعة، فهو بذلك كان صانعًا محكمًا ومجدًا.
ومعقبًا، قال صاحب الكتاب البروفسور فرو بأنه، بعد سماع وقراءة المراجعات المختلفة لكتابه، يصدق قول بارت عن موت المؤلف بعد إنتاجه لنص معين. ثم أضاف بأن الكتاب مكون من أربعة فصول بنيت بشكل منطقي وتسلسلي، حيث لا يفهم فصل دون سابقيه. فالأول يهدف إلى وضع القارئ أمام معضلة وجود أو عدم وجود حقائق تاريخية، وذلك من خلال ما ادّعاه فلاسفة التاريخ في الغرب، حيث تصنف المدارس التاريخية، مع بداية القرن الواحد والعشرين، إلى ثلاث: مدرسة الكشف التاريخي الواقعية الوضعية، ومدرسة البناء التاريخي، والثالثة التفكيكية. ثم يعرض الفصل الثاني أهم من كتبوا في التاريخ الحِرَفي، الذين حاولوا الدفاع عن التاريخ بأساليبهم. ويتناول الفصل السؤال: هل التاريخ علم؟ مستحضِرًا عينات من مؤرخين محترفين، ومشيرًا إلى مقولات أهم فلاسفة العلوم في مفهوم العلم. أما الفصل الثالث، فيظهر بأن التاريخ ليس نظرية فقط، وإنما عملية كتابة تاريخ. بينما يتحدث الفصل الرابع عن السردية التاريخية.
وقد تلى المداخلات نقاش حول الكتاب، شارك فيه المؤرخان د. عطا الله قبطي ود. جوني منصور. وقد تمت الإشارة أيضا إلى أن مدى الكرمل يسعى إلى ترجمة كتاب برفسور فرو "الدروز في الدولة اليهودية".