عقد مركز مدى الكرمل اللقاء الأخير من سمينار طلّاب الدراسات العليا في المدرسة الأهليّة في أم الفحم. وقد انقسم هذا اللقاء إلى جزأين، الجزء الأوّل قام باستضافة البروفيسورة منى خوري كسابري، عميدة مدرسة الخدمة الاجتماعيّة في الجامعة العبريّة، بلقاء وحوار مفتوح مع الطلّاب حول تجربتها الأكاديميّة ومسيرتها كمحاضرة.  يهتمّ مجال بحث بروفيسور كسابري، بالعنف داخل الأسرة، المجتمع العربيّ والمدارس.  وقد شاركت بروفيسورة كسابري تجاربها في الحقل الأكاديميّ مع الطلّاب، مشدّدة على أهمّيّة تحويل الشغف وحبّ الموضوع إلى قوّة دافعة للتميّز، والتطوير والمساهمة في المجال البحثيّ. وشدّدت كسابري على القراءة بهدف الإبحار في مجال البحث، وتوسيع الآفاق وتطوير المعرفة. كما وتناولت كسابري الصعوبات والتحدّيات التي قد يُواجهها الباحث المبتدئ في بداية مسيرته، أوّلها  صعوبة الكتابة، والفجوة بين الأفكار المتصوّرة والنصّ المكتوب لدى الباحث. وقد أجابت كسابري عن أسئلة عديدة  للطلّاب متعلّقة بالانخراط في السلك الأكاديميّ، والعمل فيه، منها ما يدور حول موضوعات الكتابة والبحث، والجيل، والعلاقة بين المشرف والطالب، واندماج طلّاب جامعات خارج البلاد بالأكاديميا في إسرائيل، والتنافس في الأكاديميا الإسرائيليّة، وفرص العمل فيها،  والدمج بين التجربة العمليّة والنظريات الأكاديميّة، وغيرها. وقد أنهت كسابري مشاركتها بالتشديد على وظيفة الأكاديميّ في تطوير المجتمع وعدم الانحصار في تطوير الذات وحسب.

في الجزء الثاني من اللقاء، قدّمت كلّ من الدكتورة تغريد يحيى- يونس، باحثة ومحاضرة في السوسيولوجيا، الدراسات الثقافية ودراسات الجندر، والدكتور مهنّد مصطفى، المدير العام لمدى الكرمل، ندوة بعنوان ” إنتاج الباحث/ة الفلسطينيّ/ة المقاوم/ة أكاديميًّا”.  افتتحت د. تغريد الندوة بالحديث عن المعرفة المقاومة، مبيّنة علاقة القوّة بالمعرفة التي تنتج في إطار وسياق قوّة، وليس في فراغ، كما زعم إدوارد سعيد. للمعرفة كما تقول د. تغريد صلة وثيقة بعلاقات قوّة وأبعاد عديدة، مثل البعد العنصريّ، العرقيّ، الإثني، الطبقيّ، الجندريّ والجغرافيّ. كما وكشفت د. تغريد عن زيف الموضوعيّة في العلم والمعرفة، حيث لذاتيّة الباحث الخاصّة حضور في البحث، وهنالك انعكاسيّة يتميّز بها الباحث، وزاوية رؤية خاصّة به هي حصيلة هويّته كباحث وهويّاته الأخرى. 

أشارت د. تغريد إلى ثلاثة أمور يجب على الباحث التركيز فيها عند كتابة البحث، هي: إعداد الباحث لإنتاج معرفة معيّنة، والإنتاج المعرفيّ؛ بدءً من الأطروحات، أو المقالات والكتابات، ونوعيّة الإنتاج المعرفيّ الذي ينتجه الباحث، هل هو إنتاج معرفيّ بديل أم شبيه بذلك في المؤسسات الإسرائيليّة. وبيّنت د. تغريد أنه لا يمكن أن نفهم الإعداد والإنتاج وسيماته إلّا من خلال السياق، لذلك يجب موضعة البحث في سياق وتاريخ، هو استعماريّ استيطانيّ في حالتنا. 

أتبعت د. تغريد كلامها هذا بالحديث عن أهمّيّة الانكشاف على مواد نظريّة ومعرفيّة مكتوبة في بطون الكتب، من خارج إطار الثقافة المهيمنة والتوجّهات الغربيّة التي تتميّز بالاستعلائيّة والاستشراقيّة لكلّ ما هو غير ذلك. كما وذكرت أنّ هذه الثقافات المهيمنة كالأكاديميا الإسرائيلية تميل إلى تغييب الإرث المعرفيّ لكلّ الشعوب المُستعمرَة، مثل ابن خلدون في الإرث المعرفيّ العربيّ الإسلاميّ. 

انتقلت د. تغريد للحديث عن محوري المقاومة الأكاديميّة، هما: محور مقاومة المعرفة الاستشراقيّة الاستعماريّة من خلال التعرّف على الإرث المعرفيّ البديل، استحضاره واستخدامه في كتاباتنا، والاشتباك الحاصل بين الأدبيّات المهيمنة والبديلة، بدون أن يلغي أحدهما الآخر، بل محاورتهما، ونقدهما.  أمّا المحور الثاني، وعلى الرغم من شحّ المعرفة الفلسطينيّة، هو مقاومة المعرفة النخبويّة، التي تُكتب على يد فئات نخبويّة من الأكاديميّين، وعن شرائح نخبويّة، بمنظور نخبويّ ولغة نخبويّة وتغييب الشعب في هذه المعرفة النخبويّة، والفئات المهمّشة والمغايرة من النساء، الفقراء، النازحين، القرويّين والفلّاحين. 

تابع الدكتور مهند مصطفى الندوة بعد د. تغريد، ويجدر بالذكر أنّه قد كتب كتابًا عن التعليم العالي بعنوان ” المؤسسة الأكاديميّة الإسرائيليّة”، وكتابًا عن الحركة الطلّابيّة.  افتتح د. مصطفى حديثه بالحديث عن سؤال الانحياز، مشيرًا إلى أنّ جميع المؤسسات الأكاديميّة في العالم تخدم مشروع سياسيّ لأنّها جزء من البنية الاجتماعيّة والسياسيّة التي نشأت فيها هذه الجامعات، معقّبًا أنّ السؤال الحقيقيّ ليس الانحياز بل أخلاقيّة الانحياز. وأتبع مصطفى السؤال هذا بسؤال آخر يتعلّق بالهدف من وراء فعل إنتاج المعرفة، هل هو التغيير الاجتماعيّ أم توسيع معرفتنا وفهمنا أكثر للظواهر؟ مبيّنًا أنّ كلّ تغيير سياسيّ اجتماعيّ في التاريخ الحديث سبقته ثورة معرفيّة بدءً من الثورة الفرنسيّة حتّى الثورات العربيّة. 

انتقل مصطفى للحديث عن الأيديولوجيا وتجميدها للمعرفة بسبب تميّزها بالطابع الخلاصيّ، أمّا المعرفة فهي انسيابيّة، متراكمة ومتطوّرة، وليس لديها بُعد خلاصيّ تتوقّف فيه البشرية عن التطوّر. واستشهد بقول توماس كون، الذي لا يقول بوجود تراكم معرفيّ ولكن ثورات معرفيّة. وتحدّث مصطفى عن الطبقات المفقودة في معرفتنا، هي تلك التي سبقتنا، وذلك بسبب هوس التقدّم للطبقات التاليّة دون التنقيب بالسابقة، ناصحًا الطلّاب بإزالة الوساطة بينهم وبين المعرفة والطبقات الأساسيّة والرئيسيّة لأنّ الوساطة فيها انحياز. 

وتناول مصطفى ضرورة الموضوعيّة في المنهجيّة البحثيّة، أمّا الانحياز في موضوع البحث، والقراءات الأنطولوجيّة للواقع فهي مطلوبة ومرغوبة بعيدًا عن النفاق والزيف البحثيّ، وهذا لا يتناقض مع الأخلاقيّة البحثيّة. بعد انتهاء اللقاء قام مركز مدى الكرمل بدعوة الطلّاب إلى وجبة احتفاليّة في أحد المطاعم، وتوزيع الدفعة الثانية من المنحة على الطلّاب. 

تمكّن بنيامين نتنياهو من تشكيل ائتلاف حكوميّ، بالتوافق مع منافسه بيني ﭼانتس زعيم حزب “أزرق أبيض”، بعد إجراء انتخابات ثالثة للكنيست الإسرائيليّ في نيسان (2020). نصَّ اتّفاق تشكيل الحكومة (الخامسة والثلاثون) على “فرض السيادة الإسرائيليّة” على مناطق في الضفّة الغربيّة وَفق خطّة “التسوية الأميركيّة”، وسيُعْرَض الاتّفاق لموافقة المجلس الوزاريّ المصغّر (“الكابينيت”) في الأوّل من تمّوز العام الجاري (2020).

ربّما يشمل الضمّ الإسرائيليّ منطقة الأغوار والمستوطنات الكبرى، الذي يتوافق مع ما تطرحه خطّة “التسوية الأميركيّة للسلام” في الـ 28 من كانون الثاني (2020). بل إنّ الخطّة تُوغِلُ أكثر من ذلك، حيث تقرّ بالسيادة الأمنيّة الكاملة لإسرائيل على الضفّة الغربيّة، وما يتبقّى من تجمّعات ومعازل فلسطينيّة يمكن أن تقام عليها الدولة الفلسطينيّة بعد موافقتها على شرط السيادة ويهوديّة الدولة؛ وهو ما يَحدو بنا أن نتساءل عن سياسة السلطة الفلسطينيّة في ضوء الإجراءات الإسرائيليّة والأميركيّة ومستقبلها.

لقراءة الورقة كاملة اضغط هنا

نشر مركز مدى الكرمل مقالًا بعنوان ” أوجه الشبه بين الكولونياليّة الصهيونيّة والكولونياليّة الأوروﭘـيّة”، لكاتبه شفير ﭼرشون وهو عالِم اجتماع يهوديّ إسرائيليّ وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييـﭼو، ترجم المقال وقدّمه أنطوان شلحت. 

يقول شلحت أنّ ” أهمّ خلاصة يتوصّل إليها شفير في هذه المقالة، وفي كتابه عمومًا، تتمثّل في أنّ الحركة الصهيونيّة، ومنذ البدايات الأولى لمشروع الاستيطان اليهوديّ في فلسطين، احتقنت بطابع استعماريّ _ كولونياليّ إزاء الفلسطينيّين سكّان البلد الأصلانيّين”. قام شلحت في مقدّمته بتقديم طرح حول انقسام الباحثين الإسرائيليّين في طريقة تعاملهم مع العقيدة الصهيونيّة، معدّدًا منهم  من تعامل مع الاستيطان اليهوديّ كحركة كولونياليّة، ومن تنكّر بشكل صارم لأيّ جانب كولونياليّ حول الاستيطان اليهوديّ المبكّر قبل 1948 وحتّى 1967. وفي توطئة مقاله نرى طرحًا مشابهًا على يد شفير، قبل أن يدّعي “أنّ هناك شبهًا مبدئيًّا، وإن كان هناك اختلاف مُعيّن، بين الاستيطان الصهيونيّ وسيرورات الاستيطان الكولونياليّ الأوروبي في ما وراء البحار”، و”أنّ التغيُّرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيليّ بعد عام 1967 لا ينبغي فهمها بوصفها انتقالًا من مجتمع صهيونيّ _ اشتراكيّ إلى مجتمع يمينيّ _ كولونياليّ، بل بوصفها استمرارًا طبيعيًّا للمشروع الكولونياليّ (الصهيونيّ)، عبْر الانتقال من شكل استيطانيّ معيّن إلى شكل آخر”.

في الفصل الأوّل من المقال، يقترح شفير تصنيفًا للنماذج الكولونياليّة الأوروبية، وهو يعتمد أربعة نماذج لمستعمرات كولونياليّة مختلفة كان الباحثان فيلدهاوس وفريريكسون يميّزون بينها، هي: المستعمرة العسكريّة، المستعمرة المختلطة، مستعمرة المَزارع، ومستعمرة الاستيطان الطاهرة. وهو يخلص إلى نتيجة مفادها أنّ طابع قوّة العمل، التي تشتغل في الأرض التي يمتلكها الكولونياليّون، يشكّل “علامةً فارقة حاسمة بين أنواع المستعمرات التي أنشأها الأوروبيون خارج تخوم قارّتهم”، كما ويُجمل شفير أنّ “الفوارق البارزة بين أنواع المستعمرات الأوروبية، والمعيار المميّز الأساسيّ هو ما أبداه المستوطنون، في كلّ حالة، من اهتمام بالأرض والعمل المحلّيّين. وثمّة تمايز إضافيّ يتعلّق بما يسمّيه المصلحة الديموﭼرافيّة لأنواع المستعمرات المختلفة”. في هذا الفصل أيضًا، يستعرض شفير الظروف والشروط التي كانت سائدة في فلسطين، بالمقارنة مع تلك التي كانت سائدة في مناطق استيطان مجتمعات كولونياليّة أخرى، وإسقاطات هذه الفوارق على الاستيطان وطابع الحركات الكولونياليّة فيها.

في فصله الثاني، يحلّل شفير “الكيفيّة التي بواسطتها لاءمت حركة العمل الصهيونيّة نموذج الاستيطان الأوروبي إلى احتياجاتها، وإلى الظروف المحلّيّة التي واجهتها”، وهو يقوم بالبحث في التطوّر التاريخيّ للاستيطان الكولونياليّ اليهوديّ في فلسطين من عام 1882 حتّى عام 1948. يرى شفير أنّه يمكن التمييز في الاستيطان الصهيونيّ، بين ستّ مراحل للتطوّر قابلة لأن تتوزّع إلى فترتَيْن رئيسيّتَيْن: فترة الهجرة الأولى (1882-1903)، وفترة الهجرة الثانية (1904- 1914). وهو يعرض للتغييرات التي طرأت في تأسيس عملية الاستيطان وأنواعها واختلاف الاستراتيجيات المتّبعة لتثبيت الاستيطان والكولونياليّة على مراحل عدة. ويوضّح شفير في فصله هذا كيف تبنّت حركة الاستيطان الصهيونيّة النموذج البروسيّ، واستراتيجيّة احتلال الأرض واحتلال العمل التي انتهجها المستوطنون من خلال “الكيبوتس”، وقد كان اعتماد الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين على ركنَيْن أساسيَّيْن: “الكيرن كاييمت” التابعة للهِسْتَدْروت الصهيونيّة العالميّة، وهِسْتَدْروت (نقابة) العمّال العبريّين. 

يشدّد شفير في الفصل الثالث من المقال على سمات الاستيطان الصهيونيّ الخصوصيّة حتّى عام 1948.  يشير شفير إلى الانتقال من نموذج مستعمرة المَزارع الإثنيّة إلى نمط الاستيطان الكولونياليّ المتمثّل في مستعمرة استيطان طاهرة- تلك التي تكون فيها أكثرية يهوديّة في جزء من البلد- وإقصاء العمّال الفلسطينيّين من سوق العمل اليهوديّة، الأمر الذي أدّى إلى ما يسمّى التقييد الذاتيّ الجغرافيّ.

أمّا الفصل الرابع فيعرض، بإيجاز شديد، خصائص الفترة الواقعة بين العامين 1948 وَ 1967، التي امتازت بالانفصال الإثنيّ على الرغم من النية المعلَنة بشأن إقامة “دولة حديثة”، طبقًا للنموذج الديموقراطيّ الغربيّ. يقول شفير أنّ الفترة الواقعة بين “حرب الاستقلال” (نكبة عام 1948) وَ “حرب الأيّام الستّة” (1967) تتميّز ” بِسِمة التجانس الإثنيّ النسبيّ للسكّان الإسرائيليّين، ولذا فإنّها لا تنفكّ تشكّل -حتّى يومنا هذا- غايةً نوسطالجيّةً (حنينيّةً) لكثير من الإسرائيليّين، الذين يبدو لهم ذلك الواقعُ أكثرَ مناسَبةً من وضعيّة الخليط الإثنيّ التي نشأت بعد حرب عام 1967″.

وأخيرًا بحث الفصل الخامس في أنماط الاستيطان الكولونياليّة في فترة ما بعد عام 1967، بالمقارنة مع تلك الأنماط من الفترتين العثمانيّة والانتدابيّة، ويبحث في إسقاطات هذه الأنماط الجديدة على طابع المجتمع الإسرائيليّ. وهو يرى  أنّ فترة ما بعد عام 1967 تميّزت بالراديكاليّة، بعد أن ظهرت أنماط جديدة من الاستيطان هي “الصهيونيّة الجديدة” التي انقسمت إلى تيارين: أحدهما يؤيد نموذج المستعمرة طاهرة، والآخر نموذج مستعمرة المَزارع. من جهة أخرى، وكردّ مضاد ظهر تيار “ما بعد الصهيونيّة” في أوساط أجزاء من حركة العمل وحركات أخرى، والتي طالبت بمساواة حقوق المواطن في إسرائيل بين العرب واليهود.

لتحميل ملف الورقة بصيغة PDF

 

يسرّنا أن نضع بين أيديكم، مقالًا جديدًا من سلسلة “دراسات عن إسرائيل” بعنوان ” أوجه الشبه بين الكولونياليّة الصهيونيّة والكولونياليّة الأوروﭘـيّة”، لكاتبه شفير ﭼرشون وهو عالِم اجتماع يهوديّ إسرائيليّ وأستاذ في جامعة كاليفورنيا في سان دييـﭼو. ترجم المقال وقدّمه أنطوان شلحت، وأشار في تقديمه إلى أنّ كتاب شفير، الذي يعتمد عليه هذا المقال، صدر بموازاة صدور كتب أخرى لمؤرّخين إسرائيليّين أمثال بيني موريس وآڤي شلايم وإيلان ﭘاﭘيه. وقد اعتُبرت تلك الكتب الأربعة في عداد أوّل قطاف لموجةِ ما اصطُلِح على تسميته “التأريخ الإسرائيليّ الجديد”. ويضيف أنّه وحتّى ظهور مقاربة شفير المعبَّر عنها في مقالته المترجَمة هنا، كان المنظور الكولونياليّ منبوذًا على نحوٍ يكاد يكون مطْلقًا في التيّار الأكاديميّ الإسرائيليّ العامّ. أمّا على وجه العموم، فإنّ الفكرة التي تتعامل مع إسرائيل باعتبارها مجتمعًا كولونياليًّا لم تجد أصداءً لها داخل المجتمع اليهوديّ، إلّا في أوساط جماعات هامشيّة من المثقّفين فقط.

يرى شفير أنّه ومنذ سنوات السبعين المتقدّمة (في القرن العشرين الفائت)، بدأت في التبلور في أوساط الباحثين الإسرائيليّين وفي الجدل الجماهيريّ العامّ، مقاربةٌ جديدة ونقديّة، ترى من منظورها، أنه من الصائب عقد مقارنة بين الاستيطانِ الإسرائيليّ الراهن والتشكيل الاجتماعيّ الإسرائيليّ الناشئ الآن، من جهة، ومجتمعاتٍ كولونياليّة أخرى مثل إيرلندا الشماليّة والجزائر الفرنسيّة أو جنوب أفريقيا، من جهة أخرى. ومريدو هذه المقاربة هم من منتقدي الاستيطان اليهوديّ في أراضي الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة بعد حرب حزيران عام 1967.

لتحميل ملف الورقة بصيغة PDF

دعوة لتقديم مداخلات في المؤتمر

 25 تموز (يوليو) 2020

يعلن مدى الكرمل، المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة في حيفا، عن بدء التسجيل لمؤتمر طلبة الدكتوراه الفلسطينيّين السادس، والذي سيعقد السبت الموافق 25\7\2020. يهدف المؤتمر إلى تدعيم طلبة الدكتوراه الفلسطينيّين. وعلى وجه التحديد، يسعى المؤتمر لأن يكون منصّة مركزيّة لتقديم أبحاث طلبة الدكتوراه الفلسطينيّين، ولأن يُسْهم في تطوير معرفتهم وإكسابهم الأدوات اللازمة للمشاركة في المؤتمرات العلميّة والمهنيّة، لا سيّما مهارات العرض باللغة العربيّة. كما يهدف المؤتمر إلى إتاحة الفرصة أمام طلبة الدكتوراه الفلسطينيّين للتواصل والتشبيك وتبادل الخبرات فيما بينهم، ومع أكاديميّين فلسطينيين بارزين وذوي تجربة بحثيّة ومسؤوليّة مجتمعيّة.

بناءً على ذلك، يدعو مركز مدى الكرمل طلبة الدكتوراه الفلسطينيّين وخرّيجي الدكتوراه الجدد (حتّى ثلاث سنوات منذ التخرج)، الذين يدرسون في مجالات العلوم الإنسانيّة أو الاجتماعيّة أو القانون في جامعات محلّيّة، فلسطينيّة وأجنبيّة، لتقديم طلب للمشاركة في المؤتمر، وذلك حتّى موعد أقصاه يوم الخميس 2/7/2020. 

تجدر الإشارة إلى أنّه في حال استمرت التقييدات الناجمة عن أزمة الكورونا، سوف يعقد المؤتمر عبر تقنيّة زووم. 

تُرسَل الطلبات إلى مركز مدى الكرمل، على البريد الإلكترونيّ التالي: mada@mada-research.org

لتقديم اقتراح لعرض مداخلة في المؤتمر، الرجاء إﺭساﻝ:

  1. ملخّص باللغة العربية أو الانجليزية عن المحاضرة التي ستعرض بحث الدكتوراه (250 كلمة). 
  2. سيرة ذاتيّة قصيرة (لا تتجاوز الصفحتين).

سيساهم مركز مدى الكرمل بتغطية مصاريف الإقامة للمتقدّمين من خارج البلاد او من المناطق المحتلّة عام 1967، الذين قد يحتاجون ذلك وقد يقدم مساهمة متواضعة بتكاليف السفر*. 

باحترام

اللجنة الأكاديمية للمؤتمر

  • هذه المساهمة منوطة بإقامة المؤتمر بشكله التقليديّ في مدينة الناصرة.

تمر القضية الفلسطينية بمفترق طويل خطير في تاريخها، فبنود اتفاق الائتلاف الحكومي شمل تنفيذ مشروع الضم لمناطق في الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات. ويحدث ذلك في ظل صمت عربي واسلامي وانشغال العالم بجائحة كورونا، وتهميش الموضوع الفلسطيني. حول هذه القضية كان “للمدينة” لقاء مع مهند مصطفى، مدير عام مدى الكرمل-المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، ومحاضر مشارك في الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ورئيس قسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي في الكلية. تجدر الإشارة انه صدر له مؤخرا كتاب جديد قام بتحريره بعنوان “حدود قوة إسرائيل في عقدها الثامن”.

لنبدأ بسؤال عام، أين القضية الفلسطينية اليوم؟
القضية الفلسطينية تمر في هذه المرحلة بمفترق طريق خطير، ويتمثل في الانتقال إلى المسار الأخير نحو تصفية القضية الفلسطينية، وعندما نستحضر كلمة تصفية، وهي كلمة مستخدمة في القاموس السياسي الفلسطيني منذ السبعينات، فلا نقصد من ورائها التحذير، او التنبيه لما هو قادم، بل بات لهذا المصطلح معنى على أرض الواقع، أي تفكيك كل قضايا الحل النهائي بما يخدم التصور الإسرائيلي الحالي. إسرائيل تعتقد أنها في لحظة تاريخية غير مسبوقة في تاريخها لإنهاء الملف الفلسطيني عبر تفكيك قضايا الحل النهائي: القدس والتي كلما طلع عليها فجر يوم جديد تتهود أكثر، واللاجئين، والحدود والمستوطنات والتي ستعمل إسرائيل على ضمها ومناطق في الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية، إنها خطوات عملية وبقي منها خطوات تقوم بها إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية سياسيا وعلى الأرض.

كيف وصلت القضية الفلسطينية إلى هذا الحال؟
ما وصلت إليه القضية الفلسطينية في الوضع الراهن، هو نتاج مباشر وغير مباشر لتداعيات اتفاق اوسلو. اتفاق اوسلو مات رسميا بعد فشل مفاوضات كامب دافيد عام 2000. ولكن موته لم يُذهب أو يُلغي ما نتج عنه، وما نتج عنه بقي قائما. وكانت هذه مصيبة الفلسطينيين. فضلا عن أن القيادة الفلسطينية ليست بحلٍ عن هذه المسؤولية أيضا. فمع موته لم يرجع الفلسطينيون إلى الوضع الذي سبق الاتفاق، بل بقوا في اللحظة التي مات فيها الاتفاق. في حينه كان يمكن العودة من تلك اللحظة إلى مرحلة ما قبل اوسلو، أما اليوم فمن الصعب مجرد التفكير في هذا الخيار.

وما هي تلك اللحظة؟ هل يمكن أن توضحها؟
أقصد باللحظة هو ذلك الواقع الذي نتج عن اتفاق اوسلو رغم موته. ويمكنني الإشارة إلى عدة نتائج بقيت حتى الأن وأثرت بشكل كبير على الموضوع الفلسطيني. منها وجود سلطة فلسطينية، وهي من نتاج اوسلو ولم تتطور إلى دولة كما توهمت القيادة الفلسطينية من مسار اوسلو. وتقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: أ، ب، ج (أو A, B,C)، هذا التقسيم كان في البداية اجرائيا حسب اوسلو، وتكّرس بعد موته. مع الاشارة أن مناطق C، والتي تقع ضمن السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية تُشكل 60% من الضفة الغربية، وفيها جميع المستوطنات والمستوطنين، فمنذ هذا التقسيم تقوم إسرائيل ببناء المستوطنات في مناطق C، حتى بلغ عدد المستوطنين أكثر من نصف مليون مستوطن، وهم أغلبية في هذه المنطقة والسكان الفلسطينيين الأصليين هم الأقلية. تحاول إسرائيل اعادة سيناريو القدس في هذا المناطق. أكثر من ذلك، أخذ اليمين الإسرائيلي هذا التقسيم وكيّف برنامجه السياسي له، لا يريد اليمين مناطق أ، ب، بل يريد ضم مناطق C. وفي هذه المناطق تجري عملية تطهير عرقي للوجود الفلسطيني من خلال هدم البيوت، وعدم اعطاء تصريحات للبناء، ونقل السكان من مكان لآخر كما هو مخطط لسكان خان الأحمر، وتضييق الحيز الجغرافي على الفلسطينيين. بكلمات أخرى تبنى اليمين نتائج أسلو وبقي معارضا له، فهو لا يريد السكان المتواجدون في مناطق أ، ب، والتي يعيش فيها 2.5 مليون فلسطيني (حوالي 90% من الفلسطينيين في الضفة) على 40% من مساحة الضفة الغربية.

اذن، قدم اوسلو ارضية خصبة لصفقة القرن؟
بكل تأكيد، واريد أن اضيف ايضا، ان الانقسام الفلسطيني الحالي، هو من نتاج اوسلو، فواقع السلطة كجسم وكسياسة، فرض الانقسام، فلولا التنافس على السلطة لما حدث الانقسام. والانقسام أضعف الفلسطينيين. لم يكن في التاريخ أن حركة تحرر وطني انقسمت على نفسها في خضم صراعها مع الاستعمار، وعززت انقسامها بواقع سلطتين منفصلتين جغرافيا، هذه سابقة في حركات التحرر الوطني، وهي كارثية على المشروع الوطني الفلسطيني. والانقسام اضاف “رونقا” خاصا لصفقة القرن، بأنه أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، وفرض قيودا عليها، حيث تتطرق صفقة القرن لقطاع غزة كمشكلة منفصلة عن القضية الفلسطينية، على الرغم انها تقترح أن تكون غزة جزء من الدولة الفلسطينية المشوهة كما تقترحها الخطة الأمريكية.

كيف يدخل مشروع الضم الإسرائيلي في هذا السياق؟
الضم هو الخطوة الاخيرة في التصور الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية. الموضوع مركب جدا، وصعب التطرق له بمقابلة صحفية. ولكن إذا حللّنا الخطة الأمريكية فهي في الجوهر مشروع الضم. الخطة الأمريكية في المجمل تقول التالي: أين وصل الطرفان على الأرض في هذه اللحظة هو ما سيكون الحل النهائي. أي ضم مناطق C، وابقاء المستوطنات، والقدس الموحدة عصمة لإسرائيل، وبقاء السلطة على حالها كتعبير سياسي للفلسطينيين، لا يهم التسمية، سلطة، بلدية موسعة أو دولة، ولكن ما هي عليه الأن هو ما سيكون. ومجرد الاعتراف بتغيير التسمية من سلطة إلى دولة فلسطينية، وهما في الجوهر واحد حسب الخطة الأمريكية، فهنالك شروط تضعها الخطة، وأهمها الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وبقاء الاجراءات الأمنية كما هي اليوم. اذن لا تغيير سيكون سوى اعلان الضم، أي شرعنة الضم حسب القانون الإسرائيلي والاعتراف الأمريكي.

هل زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لإسرائيل جاءت لمنع الضم في الوقت الحاضر؟
لا اعتقد ذلك، بل جاءت لتنسيق عملية الضم وإخراجها بشكل يضمن المصالح الأمريكية أيضا. الادارة الأمريكية الحالية تعيش أزمة داخلية بسبب اخفاقها في مواجهة جائحة كورونا، دونالد ترامب يراهن على قواعد انتخابية صلبة تدعمه في الانتخابات الوشيكة في تشرين الثاني-نوفمبر، وهي القاعدة الدينية الافنجيلية، وهم بالنهاية من دفعوه للضم، واتخاذ كل الخطوات المتعلقة بالشأن الفلسطيني. وهم الأن بعد اخفاقه المتكرر، يشكلون القاعدة الانتخابية الصلبة الوحيدة التي يملكها، ويصل عددهم إلى حوالي 80 مليون، ولا يستطيع خسرانها بمنع الضم. ولكنه يريد “ضما آمنا”، لأن هذه الخطوة هي خطوة دراماتيكية، ولا ننسى أن الولايات المتحدة كانت ضد كل سياسات الضم في العالم وأهمها ضم روسيا لإقليم القرم، وهي بدعمها لهذا الضم، المخالف للقانون الدولي وللتراث الدبلوماسي الأمريكي، تضع نفسها في مآزق دولي كبير. لذلك جاء بومبيو ليكون الضم آمنا ويأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمريكية.

ولكن يبقى الضم إسرائيليا وأمريكيا، أين العرب والمسلمين من كل ذلك؟
العرب والمسلمون صامتون أمام الخطوات، وليس المحاولات، لتصفية القضية الفلسطينية. والصمت هنا لا يعني عدم الكلام. الكلام كثير ولكن لا فعل حقيقي أمام مشروع الضم. توهم الجميع أن وباء كورونا سوف يؤجل تنفيذ ما تبقى من صفقة القرن، وفي مقدمتها مشروع الضم الإسرائيلي، لانشغال إسرائيل في مواجهة الوباء، ولكن إسرائيل مُصممة على هذا المشروع، وانشغال العالم سيسرع ذلك. وعودة إلى الكلام، حتى الكلام غير موجود تقريبا. بل هناك مساع حثيثة للتطبيع مع إسرائيل وانتاج وعي جديد حول مكانة إسرائيل في المنطقة. هنالك دول تعتبر ان تطبيعها مع إسرائيل يمر من خلال عداء للشعب الفلسطيني وتشويه قضيته العادلة. حالة غريبة حقا، هنالك دول في العالم واغلبها لها علاقات مع إسرائيل ولا تعادي الشعب الفلسطيني، لا بل تدعم سعيه لنيل حقوقه في حدود حزيران 1967. بينما دول عربية ترى ان تطبيعها مع إسرائيل لا يمر الا من خلال عداء الشعب الفلسطيني، أنا واثق أنها نخب فاسدة اخلاقيا وسياسيا ولا تمثل الشعوب العربية.

ولكن الشعوب العربية في حالة صمت، ولا نرى حراكات شعبية كما كانت في الماضي في شوارع المدن والعواصم العربية؟
عندما كنا نقرأ أن فلسطين هي ضمير الأمة الجماعي، لم تكن مقولة نثرية انشائية، بل تلك هي الحقيقة. وفي نفس الوقت علينا ان نعي أن الشعوب العربية مشغولة في قضاياها، وتدافع عنها في ظل أنظمة سلطوية. فالسوري مشغول بقضيته، واليمني، والعراقي، والليبي والمصري، هل تذكر مصر عندما كان يخرج فيها عشرات الألوف للتضامن مع فلسطين؟، ورغم انشغال كل شعب بقضيته، لكن ما يوحدهم جميعا هو قضية فلسطين، وما يمكن أن يوحدهم كأمة واحدة هي القضية الفلسطينية، ليس لأنها أكثر مأساوية من القضية السورية او اليمنية او الصومالية بل لأنها أعدل قضية عربية. لذلك تحاول إسرائيل بصورة حثيثة في السنوات الأخيرة، تشويه عدالة هذه القضية في الضمير والوعيّ العالميين من خلال ربط النضال الفلسطيني بالعداء للسامية. الشعوب العربية لا تستطيع فعل شيء في ظل ما هي عليه الأن من صراع في بلدانها، ووجود انظمة سلطوية، فقط التحرر من هذه الأنظمة سيعيد فلسطين إلى الصدارة، ولذلك الاستبداد والسلطوية هي ضد القضية الفلسطينية، حتى لو تغنت هذه السلطوية والاستبداد بفلسطين طويلا، وهي في الغالب تقف عند التغني.

حتى التغني مفقود في هذه الفترة؟
صحيح، أكثر من ذلك تغنت هذه الأنظمة الاستبدادية بفلسطين كحالة مجردة، ولم ترى الفلسطيني الانسان، بل قسم منها قمع الفلسطيني واضطهاده وقتله. وكأن فلسطين هي أرض ليس فيها أو لها انسان هو الانسان الفلسطيني. لذلك مهمة المشروع الوطني الفلسطيني المركزية في الوقت الراهن ليس بناء الدولة، بل إعادة وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان وترميم هويته الوطنية الجامعة، بالنهاية التعويل على مواجهة خطوات التصفية هو فقط من خلال وحدة الشعب الفلسطيني وهي أكبر من مجرد إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية.

هل تعتقد أنه يجب تفكيك السلطة الفلسطينية كرد فعل على الضم؟
كان هناك لحظة تاريخية كان يمكن العودة إلى الوراء لما قبل اوسلو، ومنها تفكيك السلطة، وهي اللحظة التي ذكرتها لك سابقا. ولكن ليس هناك خيار عملي بتفكيك السلطة الفلسطينية، التي اصبحت جزء عضويا من مجالات كثيرة في حياة الناس. ومقولة “تسليم المفاتيح” هي فكرة تفترض أن إسرائيل ستعود إلى احتلال مناطق السلطة أ، ب، وهكذا تدفع إسرائيل ثمن تعنتها من خلال زيادة تكلفة احتلالها النابع من اجبارها على العودة كدولة محتلة في الضفة الغربية، وهي فكرة لا تأخذ بعين الاعتبار أن هناك خيارات أخرى ستكون أمام إسرائيل ازاء واقع “تسليم المفاتيح”، وأهمها استلام مجموعة فلسطينية أخرى المفاتيح مكان المجموعة الحالية. حتى حركة حماس أدركت منذ أن السلطة هي واقع لا يمكن الرجوع عنه، فشاركت في الانتخابات الفلسطينية عام 2006، وهي بنفسها تمارس السلطة في قطاع غزة. خيار حل السلطة غير عملي، وقد يكون أكثر خطورة من الوضع القائم، ولكن هناك خيار في تحويل السلطة إلى ذراع مدنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجريدها من دورها السياسي ونقل مركز القرار السياسي للمنظمة، حتى تلك القرارات المتعلقة بعمل السلطة وعلاقتها مع إسرائيل يجب أن يكون قرار منظمة التحرير، هذا هو الحل الواقعي والعملي الوحيد والخيار السياسي الأجدر لوضع السلطة في مواجهة خطوات تصفية القضية الفلسطينية.

قدّم مركز مدى الكرمل المحاضرة الخامسة من سلسلة محاضرات “السياسة في زمن الكورونا” حول صفقة القرن في فترة بعد الاستعمار، والتي قدّمها بروفيسور إيلان بابيه، رئيس المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينيّة في جامعة إكستر في المملكة المتحدة. كانت المحاضرة هي الأولى في السلسلة التي تُقام في مكتب مدى الكرمل منذ أزمة كورونا. وقد قامت عرين هوّاري، مركّزة برنامج دعم طلّاب الدكتوراه، بتقديم بروفيسور بابيه والترحيب به في مكتب مدى. حيث أكّدت هواري أنّ استضافة بابيه في الأسبوع الذي نُحيي به النكبة لم يكن بمصادفة، حيث أنّ بابيه قد كتب الكثير حول التاريخ الفلسطينيّ وحول النكبة، لا سيّما في كتابه “التطهير العرقيّ لفلسطين”. عنى بابيه بتقسيم محاضرته لثلاثة أقسام: عرض للسياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة حتّى صفقة القرن، ومن ثمّ تعديد الدوافع الأمريكيّة والإسرائيليّة من وراء صفقة القرن، وأخيرًا الحديث عن توقّعاته حول التطوّرات المستقبليّة المحتملة وقوعها في فلسطين التاريخيّة نتيجة لصفقة القرن.

يقول بابيه أنّه وحتّى موعد الإعلان عن صفقة القرن، كان هنالك اختلاف واضح بين تصريحات الولايات المتّحدة ومواقفها المعلنة وبين الإجراءات التي اتّخذتها على أرض الواقع في السياسات الأمريكيّة، حيث حصرت الولايات المتّحدة موقفها بالكلام، ولكن لم يسبق لها أن تعدّت ذلك إلى الأفعال. على ما يبدو، كان الهدف من هذه السياسة أن توحي الولايات المتحدة بالاعتدال والموازنة بين دعمها غير المشروط لإسرائيل، والاهتمام الأمريكيّ في العالم العربيّ وما وراءه. لكنّ صفقة القرن كانت اعتراف واضح وصريح لأوّل مرّة من جانب الولايات المتّحدة حول موقفها من القضية الإسرائيليّة – الفلسطينيّة، وهو الأمر الذي اختلف مع تولّي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتّحدة. 

يضيف بابيه في القسم الثاني من المحاضرة، أنّ صفقة القرن وغيرها من القرارات الأمريكيّة، التي لاءمت ولأوّل مرّة التصريحات الأمريكيّة بالأفعال الأمريكيّة على أرض الواقع، مثل نقل السفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بالقدس كعاصمة إسرائيل، والاعتراف بضمّ الجولان لإسرائيل والاعتراف بالمستوطنات الإسرائيليّة في الضفّة الغربيّة، كلّها جاءت نتيجة للدافع الجديد لدى صانعي القرار الموجودين وراء ترامب، وهذا القرار هو نزع الطابع السياسيّ عن القضية الفلسطينيّة، وتحويلها إلى قضية إنسانيّة واقتصاديّة. هذا يعني وضع حلّ لها من خلال الوسائل الإنسانيّة والاقتصاديّة، بذلك عدم تناول الحقوق السياسيّة، كحقّ تقرير المصير أو الاستقلال أو حقّ الحريّة وحقّ عودة اللاجئين في أيّ اتفاقيّة. 

تتزامن هذه الفكرة، مع رؤى واستراتيجيّات السلطة الإسرائيليّة، خاصّةً استراتيجيّة نتنياهو التي قام ببنائها بمشاركة القوى والخدمات الأمنيّة، والجيش والأكاديميّة الإسرائيليّة. كان نتنياهو الأب المؤسس لفكرة السلام الاقتصاديّ المشابهة تماما لفكرة صفقة القرن وسياسات التضييق الاقتصاديّة التي تهدف لحصر الهمّ الفلسطينيّ في القضايا الاقتصاديّة، من أجل إيقاف مطالبهم القوميّة والوطنيّة من العالم أو إسرائيل. إنّ الرؤى الإسرائيليّة مكمّلة للرؤى الأمريكيّة، وذلك على الرغم من وجود بعض الاختلافات الطفيفة بينهم، فغاية إسرائيل الأولى هي تثبيت وجود الاحتلال، وطمس الوجود الفلسطينيّ، وتقسيم فلسطين التاريخيّة، ونزع أيّ شرعية أو حقّ للسكان الأصليّين في هذه الأرض، وهو ما تشير إليه ممارساتهم في المناطق أ، ب، ج.

يعدّد بابيه مجموعة خطوات، يرى في نظره أنّها جزء من الاشتراك الإسرائيليّ الأمريكيّ في مسح القضية الفلسطينيّة كقضية سياسيّة، والتركيز على الفلسطينيّين كأفراد أو أشخاص يعانون من مشاكل اقتصاديّة وإنسانيّة من أجل التخلّص من القضية الفلسطينيّة والالتفات لمصالحهم في المنطقة، هي: قانون القوميّة، وتشريع قانون الكنيست الإسرائيليّ عام 2001 الذي يمنع أيّ حكومة إسرائيليّة مستقبليّة من قبول حقّ العودة، وقانون النكبة عام 2010 الذي يفرض عقوبات على كلّ جسم رسميّ يقوم بإحياء أحداث 1948 على أنّها كارثة أو نكبة، وإغلاق إسرائيل في الفترة الأخيرة جميع الملفّات التي توثّق ما حدث عام 1948 والموجودة في الأرشيفات الإسرائيليّة. لخّص بابيه هذا القسم من المحاضرة بتصريحه بوجوب اعتبار صفقة القرن كإهانة للفلسطينيّين، وهي محاولة لخلق نكبة أخرى من خلال مسح الفلسطينيّين من التاريخ والسرديّة الفلسطينيّة. بالتالي، نوّه بابيه على أهميّة التعامل بجدّيّة مع هذه الموضوع الذي يشكّل خطرًا وجوديًّا على الفلسطينيّين، لما يحمله من تأثيرات سلبيّة ومدمّرة على حيواتهم وعلى حيوات اللاجئين.

انتقل بابيه للحديث في القسم الثالث من المحاضرة عن التطوّرات المحتملة في فترة ما بعد الكورونا وتأثيرات فيروس كورونا على الواقع الفلسطينيّ. يرى بابيه بأنّه يجب الإشادة بالسلطات الصحّيّة في قطاع غزّة لاتخاذ التدابير اللازمة لمنع انتشاره بعد أن كانت هناك تخوّفات عديدة من أن يستشرس المرض داخله ويؤدّي لأضرار فيه أكثر من غيره. كذا كان الوضع كذلك في الضفّة الغربيّة، أمّا في القدس فقد كان الوضع أكثر تعقيدًا. ولكن يمكن القول أنّه وحتّى الآن لم يتحوّل فيروس كورونا إلى كارثة إنسانيّة في المناطق الفلسطينيّة.

من جهة أخرى، قام الجيش الإسرائيليّ باستغلال انشغال العالم بالفيروس وتكثيف ممارساته ومحاولاته في الاستحواذ على بعض المناطق الفلسطينيّة في منطقة “ج” وتحويلها إلى منطقة يهوديّة. كما وشهدنا ممارسات أخرى كانت قد توقّفت لفترة وعادت إسرائيل للقيام بها بعد انتشار الفيروس، مثل اعتقال الأطفال، وتسريع مصادرة الأراضي وبناء مكثّف وغير قانونيّ للبيوت والعقارات في المستوطنات، وانتهاء بمحاولة إسرائيل لتنفيذ عملية الضمّ في صفقة القرن، أو عمليّة الطرد والإحلال أو الاستبدال. 

باشر بابيه بعد ذلك بتحديد العوامل التي يمكنها التأثير في المستقبل، مثل اختيار رئيس أمريكيّ منتخب آخر الذي قد يغيّر السياسات الأمريكيّة ويؤدّي إلى تليين موقفهم من القضيّة الفلسطينيّة، وإن عادت الولايات المتّحدة لسياساتها السابقة في قبول فكرة السلام الاقتصاديّ ونزع الطابع السياسيّ عن القضية الفلسطينيّة ولكن بطريقة أقل صراحة ومجاهرة، وهذا ما يدفع بابيه لعدم تعليق آمال كبيرة على التغيير في السياسة الأمريكيّة.  وهو يشير أنّ أوروبا بالمقابل قد عبّرت عن صوت معاكس ونقد قويّ لبعض أجزاء صفقة القرن، ولكن هذا لا يعني أنّ هذا الرفض سيكون له أيّ تأثير وإن كانت الإدانة الأوروبيّة قويّة ومثيرة للإعجاب، لكنّها غير حادّة ولن تترك أيّ أثر على السياسات الإسرائيليّة كما ولن تؤثّر في جوانب مهمّة من العلاقات الإسرائيليّة الأوروبيّة. ويعقّب بابيه، أنّ القضية الفلسطينيّة هي إحدى القضايا التي تكشف عن النفاق الذي يرافق الخطاب السياسيّ والفجوة بين القيم العالميّة التي من المفترض أن يكون السياسيّ ملتزمًا بها وبين سياساته الفعليّة.

مع ذلك يرى بابيه جانبًا مشرقًا من خلال ثلاث احتمالات، أو ثلاثة أنواع من التطوّرات التي قد تطرأ  على السيناريو الذي يتبع صفقة القرن. التطوّر المحتمل الأوّل، هو الأمل بتوحيد الصوت الفلسطينيّ لصوت واحد يمكنه أن يقود الجميع من حوله، ويمكن تحقيق ذلك من خلال توحيد الجهات التي تمثّل الفلسطينيّين من أعضاء كنيست عرب، إلى أكاديميّين وناشطين، وتحديد مفهوم التحرير لدى الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في القرن الواحد والعشرين.  

أمّا التطوّر الثاني المحتمل هو نتيجة لاتّساع الفجوة بين النخب السياسيّة والمجتمعات المدنيّة في العديد من الدول التي شكّلت رؤية واضحة حول ما يجب على الحكومات القيام به من أجل فلسطين.  هنالك قطاعات مختلفة من الأكاديميا، الإعلام، الجمعيّات النسويّة، والنقابات العماليّة داخل المجتمعات المدنيّة في الولايات المتحدة، وكندا، وأوروبا، والدول الإسلاميّة مثل ماليزيا وإندونيسيا، والدول العربيّة؛ الذين أسسوا بالفعل مبدأهم وموقفهم من القضيّة الفلسطينيّة ونبذوا إسرائيل، وطالبوا بمقاطعتها، وإقرار الحكومة بعدم قبولها كعضو من أعضاء مجتمع الدول المتحضّرة. إلّا أنّ هذه الطاقة الشبابيّة لم تتحوّل بعد إلى مواقف لدى السياسيّين لأنّ إسرائيل تعمل على تخويفهم وتشويه سمعتهم واتّهامهم بمعاداة الساميّة. 

أمّا التطوّر الأخير الذي تحدّث عنه بابيه هو احتمال حدوث تغيير في المجتمع اليهوديّ الإسرائيليّ، وحول أهمّيّة هذا التغيير. يرى بابيه أنّ على المجتمع الإسرائيليّ تقع مسؤولية الاعتراف بوجود مشكلة في أيديولوجيّات الدولة التي ينتمون إليها وإن كانت هذه الأيديولوجيّات تمنحهم امتيازات وقّوّة، لأنّه ومع هذه الامتيازات والقوّة لا يمكن الحصول على الأمان، فهم يعيشون في العالم العربيّ لكنّهم غرباء فيه، ومن أجل أن يحصل الجميع على حياة طبيعيّة عليهم أن يتنازلوا عن هذه الامتيازات من أجل بناء مجتمع جديد، عادل وآمن فيه مصلحة الجميع. اعترف بابيه بأنّه يعتقد أنّ تحقيق ذلك سيكون بطيئًا، ولكنّه يعتقد كذلك بوجود  ثقافة فرعيّة لدى بعض جيل الشباب الإسرائيليّين اليهود الذين بدأوا بفهم ضرورة تغيير الحكم والسياسات الإسرائيليّة من أجل القضاء على الظلم. يمكن الاستدلال على هذا التغيير من الأفراد الذين رفضوا الخدمة في الجيش، والذين غادروا الدولة وسافروا لأماكن أخرى لأنّهم لا يريدون أن يكونوا جزءً من هذا المجتمع. 

أنهى بابيه محاضرته بالتأكيد على أنّ جميع هذه هي احتمالات ممكنة وهو لا يدّعي حدوث أيٍّ منها الآن. وختم بقوله أنّ صفقة القرن هي سياسة من فوق، وهو يقصد بذلك النخب السياسيّة، وسائل الإعلام المركزيّة، والأكاديميا المركزيّة. من الصعب معرفة من في هذا المبنى الفوقيّ يمكنه أن يطرح صفقة بديلة، لذلك هو يرى أنّ منطق صفقة القرن سيبقى منطق العمليّة المدعوّة بعمليّة السلام. أمّا البديل فموجود في الخارج، يتمّ تصوّره، إدراكه، وبناؤه بالفعل، لكنّ هذا البناء يبدأ من الأسفل، من وسائل الإعلام الصغيرة البديلة، من قبل الجمعيّات الغير ربحيّة، والأكاديميّين، والناشطين، من قبل النقابات العماليّة، الشباب، والفلسطينيّين أصحاب السلطة، ومجموعات أخرى. هذه كلّها بواعث ودوافع إنسانيّة قويّة التي يمكنها ابتكار صفقة بديلة، يجب تنفيذها ويجب أن تتمّ قيادتها من قبل الفلسطينيّين من أجل مصلحة الجميع وليس الفلسطينيّين فقط، ومن أجل جميع من طُردوا من هذه البلاد، ومن أجل المنطقة كلّها كذلك. 

لمشاهدة المحاضرة: https://bit.ly/2zCgjyV

ترمي هذه الورقة إلى تسليط الضوء على أزمة الكورونا وتأثيرها الاجتماعيّ والاقتصاديّ على الفلسطينيّين في النقب. يشهد النقب، كسائر المناطق في فلسطين، انتشار وباء كورونا الذي أصبح يشكّل تهديدًا مباشرًا على صحّة الناس وسيرورة حياتهم المتمثّلة في الخروج للعمل والتعليم، ناهيك عن الحياة الاجتماعيّة الغنيّة. لا يختلف وباء الكورونا عن غيره من الأوبئة التي اجتاحت المنطقة في أوائل القرن الماضي، مثل الحصبة والسلّ وغيرها من الأمراض التي خلّفت وراءها خسائر بشريّة ومادّيّة ومعنويّة. إنّ الصعاب والتحدّيات التي يواجهها المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل (بما في ذلك البدويُّ)، على المستويات الاجتماعيّة والإنسانيّة والاقتصاديّة، لها تداعيات وخيمة، ولا سيّما أنّ هذه الفئة الاجتماعيّة هي فئة مهمَّشة في إسرائيل في جميع المناحي؛ وهو ما يتطلّب من هذا المجتمع -بطبيعة الحال- اتّخاذ نهج وسلوك محدَّدين في ظلّ تحدّي هذه الأزمة للخروج التدريجيّ منها ومن تداعياتها، وذلك من خلال إعداد خطط صحّيّة واجتماعيّة وإنسانيّة واقتصاديّة تتناسب مع سياسات التمييز وظروف الحياة، للحفاظ على النسيج الاجتماعيّ والإنسانيّ والاقتصاديّ وعدم تدهور الوضع عمّا كان عليه سابقًا وعمّا هو عليه الآن.

لقراءة الورقة كاملة اضغط هنا

We would like to introduce to you the fifth online lecture of Mada’s series of lectures called “Politics in the Time of Corona.” This lecture, titled “The Deal of the Century in the Post-Colonial Period,” was presented by Prof. Ilan Pappé, Director of the European Center for Palestine Studies at the University of Exeter in the United Kingdom. It was the first lecture in the series to be held at Mada’s office in Haifa since the beginning of the Coronavirus crisis. Areen Hawari, the coordinator of the PhD student support program at Mada, introduced and welcomed Prof. Pappe in Mada’s office. She emphasized that it is not a coincidence that Mada is hosting Professor Pappé in the week in which we are commemorating the Nakba, as he has written a lot about Palestinian history and about the Nakba in his book The Ethnic Cleansing of Palestine

You can watch the lecture on Facebook : https://www.facebook.com/MadaalalCarmel/videos/892251374626466

Or on YouTube: https://youtu.be/aa75QeS1xaQ

أطلق مركز مدى الكرمل المحاضرة الرابعة من سلسلة محاضرات “السياسة في زمن الكورونا” يوم الأربعاء الماضي 06/05/2020. جاءت المحاضرة الرابعة تحت عنوان  “ما بين الكوليرا والكورونا: قراءة تمثيل السكّان المحلّيّين في التاريخ المحليّ الفلسطينيّ” للباحث أحمد محمود، وهو طالب دكتوراه في قسم التاريخ في الجامعة العبريّة، ويكتب في التاريخ الاجتماعيّ للمدن الساحليّة في شمال فلسطين من خلال الطبّ والصحّة العامّة. يمكن تبرير أهمّيّة المقارنة بين انتشار الكوليرا وانتشار الكورونا في محاضرة محمود من خلال الإشارة إلى الضوابط والجوانب المشتركة التي تبعت ظهورهما، كتقييد حركة التنقل، بالتالي تقييد الحياة الطبيعيّة للناس، وتأثير هذه التقييدات على كافة مرافق الحياة على المستوى المحلّيّ والدوليّ على حدٍّ سواء. استهلّ محمود محاضرته بنصٍّ مقتبس من كتاب تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيّين للكاتب أليكس كرمل، يتحدّث فيه عن وباء الكوليرا الذي أصاب مدينة حيفا عام 1911، وهو أحد المصادر التاريخيّة التي وثقت لانتشار الكوليرا بشكل هامشيّ.

يقول محمود أنّه بالرغم من كثرة الكتابات حول التاريخ الفلسطينيّ إلّا أنّ قضايا الطبّ، الأمراض، الصحّة العامّة، وبلديّات المدن لم تحظى بالبحث والدراسة، وظلّت المكتبة العربيّة تفتقر إلى أدبيات تاريخيّة منهجيّة حول تاريخ الأمراض في فلسطين.  لذا اهتمّ بطرح ومناقشة أسئلة مثل: ماذا نعرف عن المجتمع الفلسطينيّ خلال اجتياح الأوبئة؟ من هي الفئات التي تمّ تمثيلها؟ وأيّ الفئات تمّ تهميشها؟ ما هي المصادر التي تتحدّث عن فلسطين في الفترات التي اجتاحتها الأوبئة؟  انطلق محمود في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة من خلال ادّعائه بوجود علاقة بين تبلور الصحة العامة في فلسطين وانتشار الأمراض والأوبئة، متّخذًا مدينة حيفا نموذجًا للدراسة. وقد عرّف محمود الصحّة العامّة بحصول الإنسان على مياه صالحة للشرب، وتوفّر أنظمة صرف صحّيّ صالحة للاستعمال، ووسائل الصحّة العامّة وأن تكون في متناول الناس. 

انقسمت المحاضرة إلى عدّة موضوعات: بدايةً تناول محمود الطريقة التي تعاملت بها الدول مع وباء الكوليرا، مشيرًا إلى الجلسة التي عقدتها الدول الأوروبيّة في المجلس الصحّيّ العالميّ في إسطنبول لمناقشة خطّ الحديد الحجازيّ الذي أُنشئ عام 1905، ذلك لأنّ خطّ الحديد الحجازيّ شكّل التفافًا على موضوع الحجر الصحّيّ من خلال الموانئ.  وقد كانت الدول في تلك الفترة تحجر المناطق التي انتشر فيها الوباء، على سبيل المثال تمّ حجر مدينة حيفا ومينائها عن باقي المدن حتى زوال الوباء، بالتالي لم يختلف الوضع اليوم في التعامل مع الكورونا عن الوضع آنذاك في التعامل مع الكوليرا. حيث يمكن ملاحظة نجاعة الدولة القومية الحديثة في تقييد الحركة والتنقل، والسيطرة على الوباء نتيجة لهذا التقييد. 

ثانيًا، تناول محمود موضوع تمثيل الفئات الاجتماعيّة والسكّان بالكتابة التاريخيّة في سياق الكتابة عن تاريخ الأمراض وانتشار الأوبئة، موضّحًا أنّ معرفتنا حول انتشار وباء الكوليرا في حيفا سنة 1911 كانت في الغالب من مصادر مثل الصحف العبريّة، والقناصل الأجانب، والصحافة الفلسطينيّة. لم تحتوِ هذه المصادر على معلومات حول التاريخ الاجتماعيّ الفلسطينيّ في وقت انتشار الكوليرا أو حول دور المجتمع في مواجهة الأوبئة، أو ردود فعل الناس على فرض الحجر الصحي. وقد تعاملت الأرشيفات الرسميّة للدولة مع السكّان من خلال تمثيلهم كأرقام وإحصائيّات وليس كحالات مفصّلة وموسّعة، أمّا القناصل الأجانب فقد عمدوا إلى تهميش السكّان المحلّيّين في توثيقاتهم، وعرضهم بصورة سلبيّة، وفي هذا انعكاس للنظرة الاستشراقيّة الاستعلائيّة الغربيّة اتّجاه السكان المحليّين في نهاية الفترة العثمانيّة. لم تختلف الكتابات باللغة العبريّة في إقصاء الوجود الفلسطينيّ في هذا السياق أيضًا. ولم تكن الكتابات العربيّة على قلّتها بديلًا للمصادر المذكورة أعلاه، لأنّها كتابات وصفيّة بالغالب، لا تحتوي تحليلًا منهجيًّا لموضوع الأمراض والأوبئة في سياق إمكانيّة قراءة تاريخ اجتماعيّ فلسطينيّ. 

عند هذا الادعاء يعود محمود لمناقشة اقتباس أليكس كرمل وتوجّهه الاستشراقيّ الذي مدح فيه الألمان الهيكليّين ونشاط الحركة الصهيونيّة الذين تمكنوا من مواجهة الوباء من خلال إنشاء منظومة صحّيّة ومتطوّرة خاصّة بهم، وذمّ السكّان المحلّيّين، وبلدية حيفا. ليس ذلك وحسب، بل اختار أليكس كرمل الكتابة عن المجتمع المحلّيّ وبلدية حيفا بشكل هامشيّ، وذلك على الرغم من مساهمات البلدية في تطوير المدينة وتحسين ظروف الصحّة العامّة. هذا النقص في المصادر المحلّيّة التي تنقل لنا صوت المجتمع الحيفاويّ، وعدم توفّر أرشيف بلديّة حيفا خلال تلك الفترة أدّى إلى تغييب دور المجتمع في التاريخ الفلسطينيّ خلال فترة انتشار الأوبئة، ممّا فتح المجال أمام الرواية التاريخيّة الاستشراقيّة. لم يكتفِ محمود بالحديث عن مدينة حيفا كمثال للأهمّيّة التي أولاها المجتمع المحلّيّ للصحّة العامّة، بل تحدّث عن مدينة طبريا كذلك، والتي ما زال أرشيفها متوفّرًا لنا حتّى اليوم. في الأرشيف تُلحظ عناية بجوانب الصحّة العامّة، الأمر الذي يعكس دور الإدارة المحلّيّة في الرقابة على وسائل الصحّة العامّة وتوفيرها للسكّان، ويدلل على دور المجتمع المحلّيّ وتطوّره في مجالات الصحّة العامّة المختلفة. 

أنهى محمود محاضرته بالحديث عن تبلور اهتمام المجتمع الفلسطينيّ بالصحّة العامّة والتفات إيجابيّ لأوساط عدّة منه لموضوع التوثيق، لا سيّما تاريخ الأوبئة الفلسطينيّ وتاريخ الأمراض في أعقاب انتشار فيروس كورونا. بالإضافة إلى ذلك نشأت عدّة مبادرات في فترة كورونا التي عَنَت بكتابة اليوميّات نتيجة للتباعد الاجتماعيّ والحجر الصحيّ، وهو ما يشكّل مادّة تاريخيّة ثريّة للمستقبل، وتوثيقًا للمجتمع الفلسطينيّ. ختم محمود بقوله أنّه لا يمكن فصل تاريخ الأمراض وتاريخ الصحّة في فلسطين عن باقي جوانب التاريخ الفلسطينيّ، وأنّه لا ينبغي أن تقتصر دارسة هذا الجانب والاهتمام فيه فقط في فترات انتشار الأوبئة، أيّ أنّ اهتمامنا فيه لا ينبغي أن يكون ردّ فعل وإنّما فعل في سياق الكتابة التاريخيّة.