امطانس شحادة

التين والزيتون

التين والزيتون

عانى الفلسطينيون في اسرائيل منذ عام 1948، وما زالوا، من سياسات التهميش الاقتصادي والتمييز والاستغلال ومصادرة الموارد. وقامت إسرائيل، وما زالت تقوم بحجب الموارد الاقتصادية عن الفلسطينيين بهدف ضمان تعلّقهم بالموارد الاقتصادية وبأماكن العمل التي تنتجها مجموعة الأغلبية اليهودية أو الدولة. فمنذ إقامتها جندت دولة إسرائيل الاقتصاد في خدمة مشروع قومي وتعاملت معه كرافعة قوة مقابل الفلسطينيين. اما البرامج والخطط التي وضعت (على الورق) لتطوير الاقتصاد العربي، وتصريحات رجال السياسية في إسرائيل حول الحاجة لتطوير الاقتصاد العربي وتحسين الاحوال المعيشية للعرب، فلم تتعد كونها ضريبة كلامية، حيث لم ينتج عنها أي تحسين اقتصادي على ارض الواقع.
الا اننا بدأنا نلاحظ في السنوات القليلة الماضية خطاباً اقتصادياً جديداً تجاه الفلسطينيين في إسرائيل تسوق له الحكومات الإسرائيلية، بدءا من حكومة اولمرت الاخيرة (خاصة بعد الحرب على لبنان 2006) وتناميه في العام الاخير. ونجد بوادر سياسات اقتصادية ليبرالية نوعا ما، تسعى لتحسين بعض المؤشرات الاقتصادية لدى الفلسطينيين. وقد بدأت الحكومة بتنفيذ عدة خطوات على ارض الواقع تعكس تغييراً ما في السياسات الاقتصادية. ورغم ما يظهره الخطاب من تحول، إلا ان فهمه من خلال علاقته بأهداف السياسات الاقتصادية للدولة يوضح عدم وجود تغير جوهري في اهداف الدولة الاقتصادية تجاه الفلسطينيين، وان هذا التغير يتناسق مع مصالح الدولة أولاً وأخيراً ولا يشمل تغير السياسات في محاور بإمكانها خلق تنمية وتطوير اقتصادي مستدام ومستقل عن نيات الحكومة، بل يحافظ على تبعية الاقتصاد العربي ويتحكم بمقامات تطوره. فالسياسات الاقتصادية المنتهجة حاليا تجاه الفلسطينيين في الداخل هي استمرار للسياسات الاقتصادية المعمول بها منذ اقامة الدولة، لكن التغيير هو في احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي.
لم تعتبر دولة إسرائيل، حتى هذه الفترة، الأزمة الاقتصاديّة للفلسطينيين في الداخل، مشكلة عميقة ومقلقة، تلزم مبدأ الخيار بين بدائل سياسية صعبة. بل تعتبر الدولة هذه المسألة «مشكلة سهلة» لها حل واحد يكمن في الحفاظ على الوضع الراهن، الذي يتوافق مع الأيديولوجية ومصالح الأغلبية. في حال بدأت هذه المسألة تضرّ باقتصاد الدولة بشكل او بآخر، أو بمؤشرات الاقتصاد الكلي للدولة، أو في حال شكلت عائقًا أمام تطبيق السياسات الاقتصادية أو تحقيق أهداف سياسية للحكومة، قد تتحول هذه المشكلة عندها إلى «مشكلة تتطلّب علاجًا». كما حصل في بداية التسعينيات وكما يحصل في السياسات الحالية. فعلى ما يبدو باتت الأوضاع الاقتصادية الصعبة للفلسطينيين تشكل عائقا أمام تطور الاقتصاد الإسرائيلي الكلي وتنميته.
وفقا لتقارير رسمية نشرت في نهاية عام 2009، بلغ معدل الفقر العام في إسرائيل قرابة 25% من مجمل الأسر. وتشير المعطيات إلى ان العائلات العربية هي الأكثر فقرا، اذ بلغت نسبة العائلات العربية الفقيرة قرابة 50% من مجمل العائلات العربية (وتشكل 30% من مجمل العائلات الفقيرة في إسرائيل)، بينما تصل نسبتها إلى 15% لدى الأسر اليهودية (وتتمركز بالأساس لدى العائلات اليهودية المتدينة). معطيات الفقر لدى الأسر العربية تضاف إلى معطيات أخرى نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية بداية العام الحالي، تشير الى ان احتمالات الأسر العربية لتكون تحت خط الفقر هي الأكبر مقارنة بالأسر اليهودية؛ وان قرابة 50% من العرب تنازلوا عن وجبات غذاء بسبب الأوضاع المالية الصعبة.
هذه المعطيات ليست غريبة عن واقع الفلسطينيين في إسرائيل، اذ ان معدلات الفقر لدى الاسر العربية آخذة في الارتفاع منذ نهاية التسعينيات، ومعدلات البطالة أعلى من معدلها العام ومعدلات الدخل أقل من العائلات اليهودية. وقد ازداد معدل حالات الفقر في أوساط العائلات العربية ثلاثة أضعاف، منذ مطلع التسعينيات. اذ تشكل الأسر العربية الفقيرة، من مجمل الأسر الفقيرة في الدولة، قرابة ثلاثة أضعاف نسبتها العامة في الدولة (13% مقابل 34%). وبلغ معدل الدخل الشهري للعائلة في إسرائيل عام 2008 قرابة الـ 13,000 شيكل (ما يعادل 3500 $)، مقارنة بـ 7000 شيكل كمعدل دخل الاسرة العربية، اي قرابة 50% من دخل الاسرة اليهودية. ويصل معدل الدخل السنوي للفرد لدى الفلسطينيين إلى 8000 $ مقارنة مع 24000$ كمعدل في الدولة. ومستوى المشاركة في قوى العمل لدى الفلسطينيين 40% مقارنة مع 55% في الأوساط اليهودية.ومستوى مشاركة النساء الفلسطينيات في اسواق العمل يصل الى 19% فقط، مقابل قرابة 50% لدى النساء اليهوديات. ويصل مستوى البطالة لدى الفلسطينيين إلى 10% مقارنةً مع 6% في الأوساط اليهودية.
في ظل هذه المعطيات قامت الحكومة الحالية باتخاذ بعض الخطوات للتعامل مع الضائقة الاقتصادية للفلسطينيين، منها على سبيل المثال، إقامة هيئة حكومية خاصة لتطوير الاقتصاد العربي وإنشاء شركة للاستثمار في الاقتصاد العربي برأس مال 40 مليون دولار وضعت الحكومة منها مبلغ 20 مليون دولار، ووضع شريك من القطاع الخاص الحصة المتبقية. كما بدأ عدد من المؤسسات الإسرائيلية بالعمل في السنوات الأخيرة على دمج العرب في الشركات الإسرائيلية الخاصة وفي الصناعات المتطوّرة والمعرفية والمعلوماتية. وافتتحت بعض الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال الحوسبة فروعًا في البلدات العربية لتشغيل موظفين عرب. وهناك مبادرات من رجال السياسة وصنّاع القرار للقاء رجال أعمال عرب وشركات عربية، مثل لقاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بمجموعة من رجال الأعمال العرب وزيارة رئيس الدولة شمعون بيرس إلى مدينة الناصرة العربية برفقة عدد كبير من رجال الأعمال اليهود، بغية مشاركة رجال أعمال عرب في تحديد احتياجات «الاقتصاد العربي» واتخاذ القرارات لتطوير الاقتصاد العربي. 

الحكومة الإسرائيلية تقبل بتطوير الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، لكن بشرط أن يكون ذلك تحت سقف احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي

التغيّر الأساسي في هذه الفترة هو أن مؤسسات الدولة باتت تعي أنه لا يمكن للاقتصاد الإسرائيلي أن يتطور من دون تطوير الاقتصاد العربي. من هذا المنطلق لم تعد تتعامل الدولة مع الاقتصاد على أنه لعبة فيها الغالب والمغلوب، والدولة تقبّل أن يكون الطرفان رابحين (win win game)، لكن بشرط أن يفوق ربحها ربح الطرف الآخر وأن تضمن مصالحها القومية أولا، ومن خلال دفع ثمن مقبول، مؤقت، لا يخرق أي توازن ولا يخلق علاقات قوى جديدة. هذا ما يفسر السياسات الاقتصادية الحالية تجاه الفلسطينيين في الداخل. بمعنى أن الحكومة الإسرائيلية تقبل بتطوير الاقتصاد الفلسطيني في الداخل، لكن بشرط أن يكون ذلك تحت سقف احتياجات الاقتصاد الإسرائيلي وبما فيه من مصلحة الاقتصاد الإسرائيلي الكلي ويساعد على تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وان يكون التطور الاقتصادي جزءا يخدم أجهزة «الإشراف والرّقابة» المعمول بها تجاه الفلسطينيين في الداخل.
ومن المرجّح أن هذا التغيّر حصل نتيجة لضروريات الإندماج الكامل بالاقتصاد العالمي وبالأساس بسبب حاجة اسرائيل لاستجابة لشروط عدد من المنظمات الدولية. منها على سبيل المثال لا لحصر منظمة التنمية والتعاون الدولية. من هنا يمكن الاستنتاج ان:
– الحكومات الإسرائيلية تسعى الى رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد الواحد، رفع المشاركة في اسواق العمل، تخفيض البطالة والفقر العام في إسرائيل.
– يبلغ المعدل العام للناتج المحلي القومي للفرد الواحد في إسرائيل قرابة 28 الف دولار سنويا، مقابل 8000 دولار تقريبا لدى الفلسطينيين. ووصلت الحكومات الإسرائيلية، باعتراف مدراء سابقين لوزارة المالية ومحللين اقتصاديين بارزين في إسرائيل، إلى قناعة انه لا يمكن رفع معدل الناتج المحلي السنوي للفرد ليصل إلى 33-34 الف دولار – ليقترب من معدلات الدول الصناعية – من دون رفع معدل الانتاج لدى الفلسطينيين في الداخل. إذ انه من ضروب الخيال رفع معدل الانتاج لدى المواطن اليهودي إلى 40 الف دولار سنوياً لكي يصل المعدل العام إلى 32 الف دولار مع ابقاء معدل الانتاج لدى العرب 8 الاف دولار. كون الاقتصاد الإسرائيلي استنفد الطاقات الكامنة في المجتمع اليهودي من حيث الانتاجية ومستويات التعليم والتشغيل.
– لا يمكن تخفيض معدلات الفقر والبطالة من دون خفضها لدى الفلسطينيين، اي من دون تطوير الاقتصاد الفلسطيني. كما لا يمكن رفع معدلات المشاركة العامة في اسواق العمل ما لم يتم رفع معدلات مشاركة النساء الفلسطينيات في اسواق العمل.
– يخسر الاقتصاد الإسرائيلي عشرات مليارات الدولارات نتيجة تدني الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في إسرائيل، كما اعلن رئيس سلطة تطوير الاقتصاد العربي في مؤتمر هرتسليا الاخير.
سعي إسرائيل الانضمام إلى منظات اقتصادية عالمية ورفع مكانتها الاقتصادية وتحقيق مصالحها الاقتصادية والقومية، يفرض عليها تحسين الاوضاع الاقتصادية للفلسطينيين في الداخل ليكون رافعاً لتحسين مؤشرات اقتصادية اساسية. لكن الحكومات الإسرائيلية تعمل على ان يكون هذا التطور مشروطاً بمصلحة الاقتصاد اليهودي – الإسرائيلي وبخدمة الاقتصاد اليهودي، وأن يكون تحت سقف الحكومة الإسرائيلية ومن خلالها، وبشرط أن لا يخلق خللاً في توازن القوة الاقتصادية بين المجموعتين اليهودية والعربية، والاهم ان لا يرفع التطور الاقتصادي من سقف الاهداف والمطالب السياسية للفلسطينيين في الداخل. اذ كانت الحكومات الإسرائيلية دائما، مستعدة لدفع ثمن اقتصادي، بصيغة عدم تنمية الاقتصاد العربي بغية عدم تقديم ثمن سياسي لهذا التطور. اي ان سياسات الاحتواء ما زالت قائمة، وما زال الاقتصاد مجنداً في خدمة مشروع قومي استعماري يعمل لصالح المجتمع اليهودي، داخل دولة إسرائيل وخارجها. اذا، تغير السياسة الاقتصادية تجاه الفلسطينيين نابع عن حاجة وليس عن قناعة أو تغير في مكانة المواطنين العرب. وتعمل الدولة على تغيير شكلي في التعامل الاقتصادي من دون ان يكون لذلك إسقاطات على مكانة الفلسطينيين السياسية والقانونية، وهي تقوم بذلك من خلال شركاء فلسطينيين من القطاع الخاص من دون إشراك مؤسسات فلسطينية رسمية او شبهة رسمية، مثل «اللجنة العليا لمتابعة قضايا الجماهير العربية في إسرائيل» (وفق التسمية الرسمية للجنة) ومن دون إشراك أي من الأحزاب العربية. وبذلك تسعى الدولة الى الفصل بين الاقتصادي والسياسي وبين الاقتصادي والقومي في حالة الفلسطينيين في الداخل.
في مقابل التغير الشكلي بالسياسات الاقتصادية، تقوم الحكومية الحالية بتطبيق سياسة عدائية بشكل متطرف تجاه القومية الفلسطينية والهوية الفلسطينية وتسعى لفرض يهودية الدولة على الفلسطينيين في الداخل بواسطة القانون، وتزيد من التمييز المقونن وتقليص هوامش العمل السياسي، حتى على مستوى الافراد. فمنذ انتخابات عام 2009 تعالت الأصوات المنادية بلجم المركَّب القوميّ في هوية الفلسطينيّين وإخضاعهم لقواعد سلوكيّة سياسية «مقبولة» بواسطة القانون، وقمع الذاكرة الجماعيّة، وإجبار الفلسطينيين للتنازل عن المطالبة بحقوق جماعيّة لأقلـيّة قوميّة اصلية، والاكتفاء بحقوق فرديّة جزئية ومنقوصة.
لذلك، قد تكون السياسات الاقتصادية الحالية، جزءاً من محاولة الدولة «إقناع» الفلسطينيين في الداخل، عن طريق رجال اعمال او مشاريع في بعض المجالس المحلية العربية، بالتنازل عن النضال السياسي القومي والاكتفاء بالمطالب الاقتصادية الفردية اليومية وتحسين ظروف المعيشة، والقبول بالأمر الواقع وموازين القوى وبصيغة النظام الحالي. على الرغم من ان محاولات شبيهة قد فشلت في السابق ولم يتنازل الفلسطينيون عن النضال القومي الوطني بل ان حدة النضال ارتفعت وسقف المطالب السياسية والقومية المناهض والممانع للمشروع الصهيوني تغير من دون رجعة. بل بات الربط بين المدني والقومي، وبين الحالة المعيشية وطبيعة النظام جزءاً من الإجماع السياسي للفلسطينيين في الداخل. وتسود القناعة ان تغير المكانة المدنية والاقتصادية، والحالة المعيشة لن يتحقق من دون تغير طبيعة الدولة.

*امطانس شحادة باحث في مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، حيفا.

للمقالة الأصلية اضغط هنا.

 
نديم روحانا

صدرت في السنوات الأخيرة ثلاث وثائق فلسطينية حول المستقبل السياسي للفلسطينيين في إسرائيل، كانت كل واحدة منها نتاج عمل جماعي لمجموعة من المثقفين والناشطين السياسيين وناشطي العمل الأهلي. عقد الاجتماع الأول حول اصدار وثيقة رؤيوية تهدف الى صياغة تصور جماعي حول مكانة الفلسطينيين في إسرائيل ومستقبلهم الجماعي في أيار سنة 2002 في «مدى الكرمل – المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية» في مدينة حيفا. وقد أسسّ الاجتماع مجموعة عمل اصبحت نواة الهيئة العامة لوثيقة اصبحت تعرف باسم «وثيقة حيفا» والتي كانت الإطار الاول منذ النكبة الذي عمل على إيجاد الحيز لمنصة وطنية مستقلة وغير حزبية، تعمل فيها مجموعة من الاكاديميين والمثقفين والنشطاء لمدة سنوات متواصلة في عملية تفكير جماعي ودراسة وبحث ونقاش متعمق وحرّ حول موضوع مستقبل الفلسطينيين في إسرائيل. وأصدروا وثيقة تعرض هذه التصور الجماعي يوم 15/5/2007.
في السنوات اللاحقة لبدء العمل على وثيقة حيفا، بدأت مجموعات اخرى من الأكاديميين والناشطين بالعمل على مشاريع شبيهه تختلف أحياناً في منهجية العمل والمحاور المركزية. فبالإضافة إلى وثيقة حيفا أُنتجت ونُشرت وثيقتين أخريين هما «التصور المستقبلي» في كانون الأول 2006 و«الدستور الديموقراطي» الذي أعدّه مركز «عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل» في آذار 2007. كما وصدرت ورقة رابعة حول «الدستور والحقوق الجماعية للمواطنين العرب» من المهم ان نشدد ان الافكار السياسية الأساسية التي تطرحها هذه الوثائق تحظى بتأييد واسع بين اوساط النخب والجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل. وهذا التأييد الواسع يشكل القوة الكامنة في الفكر السياسي الذي تعكسه هذه الوثائق.

اصبح واضحًا للفلسطينيين في إسرائيل ان القبول بالدولة اليهودية يعني ان يحكم عليهم بعدم المساواة في وطنهم وبأن يكونوا مجموعة قومية بدون انتماء الى دولة وحتى الى وطن

وتشترك الوثائق كلها في رفض فكرة الدولة اليهودية من ناحية وطرح بديل ديموقراطي وثنائي القومية (في حالة «وثيقة حيفا» و«التصور الديموقراطي») او دولة متعددة الثقافات وثنائية اللغة (في حالة «الدستور الديموقراطي»). ويأتي رفض الدولة اليهودية واضحاً وحاداً. وتطالب وثيقة حيفا مثلاً بدولة ديموقراطية مؤسسة على المساواة بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين. وتفصّل الوثيقة متطلبات هذا الحل: «تغيير المبنى الدستوري، وتغيير تعريف دولة إسرائيل من دولة يهودية الى دولة ديموقراطية تتأسّس على المساواة القوميّة والمدنيّة بين المجموعتين القوميّتين وإرساء أسس العدالة والمساواة بين كافة مواطنيها وسكانها… وتأمين مبدأ التعددية الثقافية لجميع المجموعات والمشاركة الفعلية للأقلية الفلسطينية في الحكم وتكفل حق تقرير مصيرنا كأقلية وطن». وتعدد وثيقة حيفا مطالب المشاركة في الحكم وحق الفيتو وتقاسم الموارد، وهي ميكانيزمات سياسية تميّز وتُعرف الدولة ثنائية القومية. كما تنص وثيقة «التصور المستقبلي» على انَّ: «تعريف الدولة بأنها دولة يهودية واستعمالها للديموقراطية لخدمة يهوديتها يقصينا ويضعنا في تصادم مع طبيعة وماهية الدولة التي نعيش فيها. لذلك نطالب بنظام ديموقراطي توافقي يمكننا من المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار والسلطة لضمان حقوقنا القومية والتاريخية والمدنية الفردية والجماعية» (التصور المستقبلي، ص 5). اما «الدستور الديموقراطي» فيطالب بدستور «في دولة لا تسيطر وتحتل شعب آخر وقائمة على المساواة التامة بين كافة سكانها وجميع مجموعاتها، ….في دولة ديموقراطية ثنائية اللغة متعددة الثقافات».
ان معنى عدم القبول بإسرائيل كدولة يهودية، كما تنص جميع الوثائق، هو أن الفلسطينيين في إسرائيل لا يقبلون بشرعية الدولة اليهودية كنظام سياسي. ويستطيع الفلسطيني في إسرائيل المجاهرة بهذا الموقف لأنه يطرح بديلاً ديموقراطياً يعتمد المساواة بين الافراد والمجموعات القومية، وهو مطلب يعتمد الاسس الديموقراطية الأممية. والأهم من ذلك في اعتقادي، فإن هذا الموقف يعني ضمنا عدم القبول بقرار التقسيم 181، حسب التفسير الإسرائيلي. حتى في الظروف السياسية والديموغرافية التي نتجت عن النكبة وعن عملية التطهير العرقي، وحتى لو وضعنا قضية اللاجئين جانبًا للحظة، لم يعد بالامكان القبول بدولة يهودية في حالة التركيب السكاني داخل إسرائيل، عداك عن استحقاقات حق العودة الذي تطالب بتحقيقه هذه الوثائق. وقد اصبح واضحًا للفلسطينيين في إسرائيل ان القبول بالدولة اليهودية يعني ان يحكم عليهم بعدم المساواة في وطنهم وبأن يكونوا مجموعة قومية بدون انتماء الى دولة وحتى الى وطن.
إن الرفض الضمني لقرار التقسيم هو احد اهم معاني هذه الوثائق، حتى لو لم تتطرق اليه أيٌ منها بشكل مباشر وحتى لو لم تتم مناقشته قبل او بعد اصدار الوثائق. وقد ينبع تحاشي النقاش في هذا الموضوع من مغازيه السياسية البعيدة المدى او من عدم الاتفاق بخصوصه بين التوجهات السياسية المختلفة. الا ان هذا لا يمنعنا من ان نلاحظ ان عدم القبول بالدولة اليهودية يعني في الواقع عدم القبول بقرار التقسيم حسب التفسير الإسرائيلي.واذا ما تركنا مسألة رفض قرار التقسيم آنيا والتحدي الكامن فيه وعدنا الى مسألة الدولة اليهودية فإننا نلاحظ ان هذا الرفض لفكرة الدولة اليهودية والمطالبة بتحويلها الى دولة ديموقراطية يأتي في مرحلة أصبح فيها حل الدولتين برنامجاً دولياً تتبناه الولايات المتحدة وتطالب فيه إسرائيل نفسها. الا ان إسرائيل اخذت في الفترة الأخيرة تطالب أيضا – في إطار حل الدولتين – الاعتراف بها كدولة يهودية. ودخلت المطالبة الإسرائيلية بهذا الموضوع الخطاب الدبلوماسي العالمي وخاصة الخطاب الذي تقوده الولايات المتحدة. وتكرر التشديد على «إسرائيل كدولة يهودية» او كدولة الشعب اليهودي في إطار «العملية السلمية» بين إسرائيل والفلسطينيين. وبدأ هذا الخطاب اميركياً خلال إدارة الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته الأول كولن باول والذي كان من اوائل من استعملوا هذا الخطاب. واستمرت الإدارة الحالية ممثلة في الرئيس ووزيرة الخارجية باستعمال نفس الخطاب إلى ان صار خطاباً مقبولاً في إطار «العملية السلمية». وتعتمد إسرائيل عند المطالبة بالاعتراف بها كدولة يهودية على قرار التقسيم 181 الذي نص على ان «تنشأ في فلسطين الدولتان المستقلتان العربية واليهودية، والحكم الدولي الخاص بمدينة القدس».
وكرد على بوادر هذه التحديات انشغلت الدولة الإسرائيلية ومؤسساتها الاكاديمية وتلك التي تعنى بالمسائل الدستورية، الرسمية وغير الرسمية، قد انشغلت في العقدين الاخيرين في مشروع فكري سياسي جاء لتثبيت إسرائيل كدولة «يهودية وديموقراطية» . وقد اعتمد هذا المشروع على تطوير نظريات اكاديمية تحاول التوفيق بين الديموقراطية وعدم المساواة وعلى مشاريع دستورية رسمية وغير رسمية تثّبت يهودية إسرائيل وتأسيسها دستوريا على انها دولة يهودية وديموقراطية.
يأتي الموقف الجماعي للفلسطينيين في إسرائيل في مرحلة تشدّد فيها السلطة الفلسطينية ونخبها على حل الدولتين وتتغاضى عن سؤال الدولة اليهودية ومعناه بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين. وقد نما الانطباع بان النخب الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لن تتحدى في الوقت الحالي مطالبة إسرائيل بالقبول بها كدولة يهودية او دولة الشعب اليهودي في إطار حّل الدولتين ما دامت إسرائيل لا تصّر على اعتراف فلسطيني حاد ومباشر في هذا الخصوص.
لذلك في التحدي الذي يطرحة الفلسطينيون في إسرائيل للدولة اليهودية – فكرا وتطبيقا- قوة كامنة كبرى تتكّشف ببطء وتؤدي الى نقل مركز الثقل الفلسطيني في تحدي جوهر الفكرة الصهيونية تدريجيًا الى داخل إسرائيل نفسها. وفي اعتقادي فإن فشل حل الدولتين سيعمل على إعطاء الفلسطينيين في إسرائيل مركز ثقل لم يحصلوا عليه ابداً في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تحديد معالم الحل المستقبلي للصراع بين الصهيونية والشعب الفلسطيني.
ان الوثائق التي ذكرناها لا ترفض الدولة اليهودية فقط، ولكنها تضع الأسس الفكرية والديموقراطية لحل ثنائي القومية يبدأ داخل إسرائيل نفسها. وتبنت الوثائق حل الدولتين ولكن ليس دولتين لشعبين وإنما واحدة فلسطينية في الأراضي المحتلة وواحدة ثنائية القومية. والمهم في هذه الاسس التي وضعتها الوثائق هو ليس قابليتها للتطبيق في المستقبل القريب – لأننا نعلم ان ذلك ليس ممكنًا في إطار علاقات القوة الحالية. المهم هو تثوير الوعي الثنائي القومية القائم على المساواة الجماعية والفردية كحل مستقبلي. ولما اصبحت البرامج السياسية التي تعتمد المفاوضات من أجل حل الدولتين قليلة الاحتمال – ان لم تكن معدومة الاحتمال – ومع بروز الفكر الثنائي القومية والفكر الديموقراطي فقد ازدادت المكانة الأخلاقية والأهمية السياسية للفلسطينيين في إسرائيل. وبذلك فإن هذه الوثائق تتلائم تماما مع هذا التطور السياسي أيضا، وتساهم في اعطاء الفلسطينيين في إسرائيل مكانة سياسية في البرامج الفلسطينية المستقبلية نحو الحل الثنائي القومية. ولم تتبنَ أي من الوثائق برنامج الدولة الواحدة لأسباب يطول شرحها واكتفت بتثوير الوعي الثنائي القومية.
وفي واقع الامر فإن الفلسطينيين في إسرائيل، مثل اللاجئين الفلسطينيين هم اكثر المستفيدين من حل ثنائي القومية. وكان بعض مثقفيهم قد ساهموا في طرح هذا الفكر منذ مدة طويلة. وعليه فإن إحدى التطورات المركزية التي من الممكن ان نشير اليها في السنة الأخيرة هي المساهمة في تفكيك معنى الدولة اليهودية وتحديها وإرساء بعض الأسس الفكرية المتواضعة للتفكير الثنائي القومية.
إن القوة السياسية والاخلاقية الكامنة في هذه المواقف تمسّ صلب الصراع بين الفكر الصهيوني وإسرائيل من ناحية وبين الشعب الفلسطيني وقواه السياسية المختلفة من ناحية ثانية. وقد يتبدّى بعض من اهمية هذا التحدي في ردود الفعل الإسرائيلية الشديدة الحدّة على نشر هذه الوثائق. وقد شملت ردود الفعل المستوى الرسمي، الاكاديمي، والصحافي. وتميزت معظم الردود برفض المطالب المتعلقة بتغيير هوية إسرائيل ومُهاجمة الافكار المطروحة فيها بينما كانت هناك اصوات ادّعت ان المطالبة بالمساواة هي مشروعة لكنها لا تتناقض مع الدولة اليهودية. وسمى البعض هذه الوثائق «اعلان حرب» «وخروج عن سياق المطالب العادلة للأقليات»، «تهديد على كل مواطن يهودي» و«محاولة لتحويل إسرائيل الى دولة فلسطين» «وبداية الهلاك» و«خطر استراتيجي» وما اليه من تعبيرات. وفي المجمل فقد رأى الرأي العام اليهودي الرسمي والشعبي ان مطالب الوثائق تشكل خطرا استراتيجيا على إسرائيل، لا يقل اهمية عن الاخطار الخارجية (انظر مقالة اريج صباغ – خوري).

يأتي الموقف الجماعي للفلسطينيين في إسرائيل في مرحلة تشدّد فيها السلطة الفلسطينية ونخبها على حل الدولتين وتتغاضى عن سؤال الدولة اليهودية ومعناه بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين

وتظهر ردود الفعل هذه ان التحدي الذي يطرحه الفكر والوعي السياسيان اللذان تعكسه الوثائق هو تحدي جدي لجوهر إسرائيل – الصهيونية. وتكمن اهميته وخطورته في انه يُطرح من قبل مواطنين يرون في أنفسهم أصحاب البلاد الاصليين، يعتمدون على اسس ديموقراطية ومبادئ اممية مثل المساواة ويكشفون في مطالبهم الاشكاليات الاخلاقية والسياسية في الفكر الصهيوني ويهددون لبّ الهوية الصهيونية بتوجه اخلاقي بإمكانه ان يلقى تجاوبا في العالم عندما يستطيع الفلسطينيون إيصاله. 
وفي الواقع فإن احد مقومات قوة التحدي الذي يقدمه الفلسطينيون في إسرائيل لجوهر إسرائيل هو في الضعف الأخلاقي للفكرة الصهيونية نفسها التي لا تتعايش مع المساواة والتي تعتمد العنف ضرورةً لتحقيقها. ويزيد من قوة التحدي موقعهم كمواطنين يطالبون بمطالب ديموقراطية اساسية مثّل المساواة. وتبقى معاملة إسرائيل مع مواطنيها العرب احد المحكّات التي يتكشف من خلالها اعتماد الصهيونية الحتمي على العنف والتسلط والتمييز وسلب الموارد. ويتكشف ايضا التناقض الفظ بين الصهيونية ومبادئ المواطنة المتساوية بشكل لا تستطيع إسرائيل ان تخفيه تماما وراء ستار مواجهة الإرهاب او الاعتبارات الأمنية.
ويمكن الادّعاء ان الفلسطينيين في إسرائيل، وبحكم موقعهم كأقلية أصلانية في دولة يفرض نظامها دونية وعدم مساواة قد طوّروا في تعاملهم مع هذه الدولة اطروحات سياسية اخلاقية لأن هذه المجموعة الفلسطينية، بطبيعة الحال، تواجه الدونية والاستعلاء اليهودي المثبت قانونيًا ودستوريًا. الا انه يبقى السؤال اذا كان الفلسطينيون قادرين على تطوير استراتيجيات تمكّن من تحقيق القوة الكامنة في موقعهم وفي التحدي الذي يطرحون.

*البروفيسور نديم روحانا هو مدير عام « مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية «واستاذ في كلية القانون والدبلوماسية في جامعة تافتس في بوسطن.

للمقالة الأصلية اضغط هنا.

 

 

إمطانس شحادة *

كما أسقطت هزيمة إسرائيل في حرب لبنان 2006 خيارات إسرائيل في فرض حلول سياسية بواسطة القوة العسكرية، فإن ثورة مصر وتونس أسقطت مقاربة استعمال الإغراءات الاقتصادية ووهم التنمية كرافعة لإقناع أنظمة وشعوب عربية بشروط السلام الإسرائيلية.

تحاول إسرائيل، منذ عقود، أن تفرض وجودها وهيمنتها على المنطقة، بواسطة تفوّقها العسكري من جهة، وعن طريق إغراءات بتنمية اقتصادية وتحديث للدول العربية المجاورة في حال أقامت علاقات مع إسرائيل، من جهة اخرى.

هكذا استعملت إسرائيل الترهيب والترغيب العسكري والاقتصادي لفرض شروطها على الدول العربية (والسلطة الفلسطينية). فكانت إسرائيل، وما زالت، تروج للدول العربية (على الأقل غير النفطية) أنها تملك مفاتيح الطريق إلى الغرب، وأنّ الازدهار والتحديث الاقتصاديين، يمران عن طريق تل أبيب. هذا الاشتراط تمّ طبعًا بمساعده حلفاء إسرائيل في الغرب (الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية) ومؤسسات مالية عالمية، الذين أعاقوا واشترطوا دخول دول عربية إلى الاقتصاد العالمي أو الاستفادة من الاستثمارات الخارجية، بتوقيعهم على اتفاقيات سلام (استسلام) مع إسرائيل، أو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، حتى دون اتفاقيات رسمية علنية.

كان النظام المصري بعهد أنور السادات أحد تلك الأنظمة العربية التي رضخت لضغوطات الغرب الذي اشترط مساعدة الاقتصاد المصري بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، وهكذا كان مع النظام الأردني والتونسي والمغربي، وغيرهم. تلك الدول سلّمت إراداتها السياسية القومية الى الغرب وإسرائيل، وسلمت إدارة سياساتها الاقتصادية لصندوق النقد والبنك الدولي، وقبلت النظام الليبرالي الرأسمالي دون قيد أو شرط، ودون مرحلة انتقالية تعاد فيها هيكلة الاقتصاد والصناعة، ودون تمكين المواطنين من اكتساب الأدوات الضرورية لهذا التحوّل، والأهم أن تلك الدول لم تطبق فعلا اقتصادًا حرًا في علاقات الدولة مع المواطنين، إنما ألغت تدخّل الدولة في الاقتصاد ومنحت الفئات المقربة من السلطة وأركان السلطة ذاتها السيطرة على الاقتصاد وموارد الدولة. أنتج هذا الحال طبقة حاكمة فاسدة وقامعة (سياسيًا واقتصاديًا) تسيّطر على السياسة وعلى الاقتصاد، على الموارد والنفوذ.

في حالة مصر، وإلى جانب التحوّل الاقتصادي والانكشاف أنتج نوعا من أنواع التنمية والتحديث والتصنيع، أُنتج أيضًا -في ظل سيطرة الفئة الحاكمة على الاقتصاد- تشويهًا للعمليات الاقتصادية وازديادًا كبيرًا في الفروق الاقتصادية بين شرائح المجتمع المصري، بين المقربين إلى النظام وسائر الشعب، وتنامى الاحتكار، ولو بأنماط جديدة، وزاد الدين الخارجي، وارتفع العجز التجاري، وتسارعت عمليات خصخصة وبيع شركات وقطاعات حكومية إلى القطاع الخاص، وخفضت التعريفة الجمركية على الاستيراد وكشف الاقتصاد المصري والصناعات المصرية بشكل كامل على الاقتصاد العالمي، وقلصت ميزانية البنود الاجتماعية، وارتفعت البطالة والفقر.

في مصر، قام النظام الديكتاتوري بانتهاج نظام اقتصادي ليبرالي ووزع ممتلكات الدولة على المقربين من النظام، وسنّ قوانين وتشريعات جمركية وضريبية تعمل لصالح الفئات المسيّطرة والحاكمة وتستنزف مقدرات الشعب وتفقره. وبطبيعة الحال، لا يمكن الحفاظ على هذا النظام دون القمع من جهة، والاحتواء من جهة أخرى. والأهم هو أن تلك الفئة كانت تملك حصانة محلية وعالمية، وحصلت على صكوك غفران لكل هذا الفساد، لأنها تفي بشروط الاعتدال السياسي في المنطقة وتخدم مصالح سياسية وأمنية للاستعمار وللغرب ولإسرائيل. فما دامت تستطيع التوفيق بين الفساد وبين السيطرة على الشعب وإرادته السياسية، وقبول شروط المؤسسات الاقتصادية العالمية، لا بأس إذا، فليستمر الحال على ما هو.

ثورة تونس ومصر قد تؤديان إلى كسر تلك المنظومة الفكرية الاقتصادية والتنموية التي روّجت لها إسرائيل والغرب، والتي تربط ما بين نمو وازدهار الشعوب العربية برضا إسرائيل ومكافآت من الغرب. تلك المنظومة أنتجت على أرض الواقع الفقر والقهر والإذلال للشعوب العربية. وفي المقابل، فإن قلق المؤسسة الإسرائيلية من انهيار هذه المقاربة لا يقل عن قلقها من الأبعاد العسكرية الاستراتيجية والسياسية، التي قد تنتجها الثورة.

انهيار نموذج التنمية الاقتصادية المشوهة والمرهونة برضا إسرائيل وشروط البنك الدولي وصندوق النقد، يمكن أن يكون ضربة قاسية لنظام إقليمي وربما عالمي، حتى ولو لم يتغير النظام المصري في المدى القريب. فلا  يمكن لإسرائيل والغرب بعد هذه التحوّلات أن يقنعوا أنظمة عربية أو شعوب عربية بـ"الفوائد الاقتصادية" لتسوية بشروط إسرائيلية، والتنازل عن الإرادة القومية الحرية والكرامة، وتوكيل إدارة الاقتصاد لأيدي البنك الدولي وصندوق النقد، أو أن الطريق إلى النمو تمر من تل أبيب.

واذا كان الغرب الرأسمالي مستعدا في السابق إلى دفع المستحقات الاقتصادية لعمليات التفاوض واتفاقيات الاستسلام السلمية، لم يعد في مقدروه فعل ذلك اليوم. فهو يقبع تحت أزمة مالية واقتصادية خانقة تهدد مستقبل اقتصاده افقدته مصداقيته. وقد خسر النظام الرأسمالي دول أمريكا الجنوبية وباتت تعرض تلك الدول نماذج ازدهار ونمو مغايرة عن النموذج الرأسمالي، تدمج ما بين سياسات السوق الحر والاقتصاد الاجتماعي، تطبق خارج سرب قواعد المؤسسات المالية العالمية ودون شروطها، أي أن النظام الرأسمالي ذاته يتآكل ويواجه المشاكل ومهدد بالانهيار.

هذه المعاني لثورة مصر، تحديدًا، مسكوت عنها إسرائيليًا بل وأمريكيًا لغاية الأن. وهي بحسب رأيي لا تقل أهمية عن الأبعاد الأمنية العسكرية المباشرة لنتائج الثورة. فاذا كانت الحرب على لبنان في العام 2006 وعلى غزة في العام 2008 قد أفقدت إسرائيل قدرتها بالتهديد العسكري بغية فرض تصرف سياسي مقبول أو فرض شروطها لاتفاقيات سلام مع أنظمة عربية، فإن الثورة التونسية والمصرية، سحبت من إسرائيل والغرب أوراق ضغط اقتصادية كانت تلوح بها لإذلال الدول والشعوب العربية.  

لقراءة المقالة الأصلية إضغط هنا

كلمة التحرير
المقال التحليلي
وجهات نظر
أوراق معلوماتية
الأنشطة الجارية في مركز مدى
المحرر المسؤول
نديم روحانا
المحرر الضيف
محمد الحاج يحيى
مساعدة تحرير
حنان عبده
ترجمة
نواف عثامنة
جلال حسن
تدقيق لغوي
حنا نور الحاج

المواد المنشورة في ”جدل” تعبر عن آراء كتابها، ولا تعكس بالضرورة مواقف مدى الكرمل. © حقوق الطبع محفوظة.

عُقِدت في مركز مدى الكرمل، مع بداية تشرين الثاني (2011)، ندوة قراءة في كتاب "فلسطين: وطن للبيع" (الصادر حديثًا باللغة العربيّة عن مؤسّسة روزا لوكسمبورغ، في رام الله 2011) وهو للكاتب والباحث د. خليل نخلة.

افتتحت اللقاء جنان عبده (منسّقة أنشطة في مدى الكرمل)، فأشارت إلى أنّ "المواضيع التي يطرحها الكاتب والمتعلّقة بمعوّقات التنمية التحرّريّة، وعلاقة رأس المال الفلسطينيّ وسياسات التمويل بالاستعمار والتنمية، هي مواضيع تشغل الجمعيّات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ وتصبّ في مجال عملهم". وأضافت أنّ "الكاتب قد تخطّى مرحلة طرح الأسئلة، إلى إعطاء إجابات بل إلى بناء نظريّة حول هذه المعوّقات، وأنّه يطرح وجهة نظر قد نتّفق معها، أو مع بعض جوانبها، وقد نختلف تمام الاختلاف، لكنّها مبنيّة على تجربته الشخصيّة في العمل في موقع صنع القرار ببعض مؤسّسات التمويل- والهدف من ندوة كهذه هو إثارة النقاش وفتح مجال الحوار".

وفي مراجعته للكاتب، قال إمطانس شحادة (طالب دراسات عليا وزميل بحث في مدى الكرمل) "إنّ الكتاب يتصدّى لمقولة التنمية في فلسطين، التي تتولاّها الدول والمؤسسات المانحة منذ توقيع اتّفاقيّة أوسلو، وتداعيات التدفّق الماليّ الأجنبيّ المحمَّل بأجِنْدات سياسيّة على القضيّة الفلسطينيّة عامّة وتناقضه مع مفهوم "التنمية التحرّريّة" التي يحتاجها شعب ما زال محكومًا للاحتلال". من جهة أخرى، أشار أنّ "الكاتب أعطى ثِقلاً أكبر لخطايا رأس المال أكثر من إدراكه استحالة تنمية اقتصاديّة أيًّا كان نوعها، وأيًّا كانت غاياتها أو جوهرها تحت سلطة احتلال واستعمار". وأكّد أنّ "القضية الأولى هي قضيّة الاحتلال قبل أن تكون سوء نيّة واستغلال من قبل رأس المال الفلسطينيّ المغترب أو المحلّـيّ والمؤسّسة السياسيّة الفلسطينيّة. لكن من فصول الكتاب وحالات البحث التي يتعامل معها الباحث تتكوّن صورة ملخَّصُها أنّ الأولويّات مختلفة، وأنّ المشكلة في تقسيم الوظائف بين السلطة والشركات الاحتكاريّة، وأنّه إذا تغيّر هذا النهج يمكن أن نخلق تنمية اقتصاديّة تحرّريّة، أو كما يُطلق عليها الكاتب "التنمية التحرّريّة المرتكزة على الناس".

وشدّد الباحث والمفكّر د. اسماعيل ناشف (المحاضر في جامعة بن غوريون في بئر السبع) على موضع الكاتب والكتاب في التحليل الإنثروبولوجيّ الفلسطينيّ. وأكّد أنّ "هذا الكتاب يكمّل مسيرة حياة ويشكّل زبدة عمليّة الوعي للذات والنقد، ويشمل درجة عالية من المفهوم الاعترافيّ بمفهومه "الكاثوليكيّ" ويتطلّب قدرًا عاليًا من الجرأة لكتابته، وأنّ مساهمة الكتاب هي "في تعميم هذا الإرث الكبير، وفيه حالة من التشخيص والمساءلة. ويستحضر حالة الجماعة بالصراع مع الاستعمار". وأكّد ناشف أنّ "ما يُقلق الكاتب ليس مسألة الربح، بل مسألة الفساد"، وأنّه فيه "محاولة جادّة للإمساك بتفاصيل تشمل الأوجه المتعدّدة لحالة النخبة. وربط حركة رأس المال بالمعرفة والأيديولوجيا". وأشار إلى أنّ التوصيات التي يصل إليها الكاتب هي كذلك "مبنيّة على مجموعة من الثوابت الأخلاقيّة، وفيه وعي غرامشي للطبقة التي يوجد فيها الكاتب". وانتقد ناشف قبول الكاتب بحدود الـ 67 وإرْث منظّمة التحرير، مشيرًا إلى أنّ "الأيديولوجيا الوطنيّة هي اشتقاق من الاستعمار، وكلاهما واجهتان للنظام الرأسماليّ".

وفي كلمته أكّد د. خليل نخلة أنّه يحاول طرح سؤال: "ما طبيعة هذا المجتمع الفلسطينيّ، وكيفيّة إجراء التحوّل الجذريّ فيه". وأكّد أنّ "تَوَجُّهه الفكريّ نقديّ يستفيد من الإرث الفكريّ النقديّ اليساريّ لا من التحليل الماركسيّ التقليديّ". وأشار قائلاً "إنّنا نساهم في محاولة لإعادة هندسةِ ما هي فلسطين وتوجيهها في سياق لا يقصر تركيزه على النيوليبراليّة الاقتصاديّة". وأشار أنّ "الوقفة عند 67 كانت لاعتبارات عمليّة… والمفروض أنّ النهوج نفسها كائنة هنا في 48"، وأنّ ما يقلقه هو "التواطؤ القائم بين الرأسمال الفلسطينيّ والنُّخَب السياسيّة الفلسطينيّة التي خلقتها أوسلو، وأنّ ما يسمَّى اليوم الدولة هو أصغر من الشركات الكبرى؛ حتّى إنّه لم تعد اليوم ثمّة حاجة إلى الاحتلال العسكريّ لأنّ مجموعة صغيرة من الناس تدير العالم"

 

د. اسماعيل ناشف "لا يمكن للمؤسسات الفكرية اختزال الفكر بالسياسة بمعناها المباشر، وذلك كي لا يُبلع الفكر بالسياسة وكي لا يتحول الفكر إلى مردد للخطاب السياسي المأزوم أصلاً. على المثقف أن يكتشف النقاط العمياء في علاقته مع المستعمر ليكسر علاقة السيد والعبد، فالنقاط العمياء مستعصية على فهم المستعمر وترهبه"

"علينا كمثقفين أن نفكر في فضاء العلاقة بين المُستعمِر والمُستعمَر واعتماد العلاقات والموروث التي تقع خارج هذا الفضاء وهذه العلاقة. فالخروج عن إطار هذه العلاقة يُرهب السيد ويذعره. ودور المثقف هو أن يؤشر ويدل الجماعة التي ينتمي اليها على تلك النقاط العمياء في العلاقة بين الطرفين والتي لا يفهما السيد. فالهدف الاساسي هو تفكيك النظام الصهيوني والتحرر، أي تحرير الانسان. فوضع الدولة كهدف أعلى يُفشلنا ولا يُخرجنا من علاقة السيد والعبد"، هذا بعض ما قاله د. اسماعيل ناشف، المحاضر في قسم العلوم الاجتماعية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، خلال الندوة التي عقدها مدى الكرمل، المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية.

يذكر أن مركز مدى قد نظم ندوة حول دور المثقف الفلسطيني في ظل الأوضاع السياسية الراهنة، وذلك على خلفية ما تشهده الساحة السياسية في الفترة الأخيرة من تصعيد خطير في الملاحقة السياسية، التحريض ومحاولات الترهيب والتخويف، التي أصبحت تشكل خطراً وجوديا على القيادات والجماهير العربية. هذا وقد ناقشت الندوة كتاب "بناء الأمة من جديد – المثقفون الفلسطينيون في إسرائيل"، الذي صدر مؤخراً للباحثة د. هنيدة غانم، المديرة العامة لمركز مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية.

افتتح الندوة وأدارها الباحث إمطانس شحادة من مركز مدى في عرض مجموعة من الأسئلة المرتبطة بالكتاب المطروح حول دور المثقف وكيف يفهم ويحلل الوضع السياسي الراهن. "كيف يشخص المثقف المرحلة الحالية في علاقاتنا مع إسرائيل؟ ما هو دور المثقف في هذه الحالة؟ هل له دور اجتماعي سياسي، أم يقتصر دوره على التحليل فقط؟ هل ثمة حالة من الغربة بين المثقف والسياسية وعزوف المثقف عنها؟ وكيف نعرّف دور ووظائف المثقف الفلسطيني في المرحلة الحالية؟" هذه بعض من التساؤلات التي طرحها شحادة للحوار .



د. اسماعيل ناشف اشار في محاضرته الى اهمية عدم اختزال الفكر بالسياسة بالمعنى المباشر وخاصة أن السياق الفلسطيني السياسي هو جزء من الأزمة، ثم قدم قراءة نقدية لكتاب د. هنيدة غانم وربط ذلك بدور المثقف، لافتاً إلى ما يتضمنه الكتاب من أنجاز هام. "الكتاب والخلفية الاجتماعية لهنيدة غانم مهمان جدا، فهي تكسر النسق القائم من الكتابات النسائية الفلسطينية التي تشكل في غالبيتها جزء من الأزمة"، قال د. ناشف، لكنه من ناحية اخرى اشار إلى أن الكتاب الذي نحن في صدده يوثق تاريخ تطور المثقف الفلسطيني من خلال استعمال تقنيات كلاسيكية كالمقابلة وتحليل للنصوص دون التفاعل مع الحركة الداخلية لهذه النصوص، الأمر الذي أدخل التحليل في ورطة التعامل مع النص كشعار، وليس واضحا تماما لماذا هذا الخيار دون غيره. وأضاف بأن النظام التحليلي الذي يعتمده الكتاب لا يتجاوز علاقة "السيد والعبد" بمصطلحات هيجلاينية. كما قال بأن الكتاب يجمل العمليات الممكنة والمأزومة في علاقة المثقف الفلسطيني مع المستعمِر الصهيوني ويبين لنا حدود الحراك وحدود الأزمة. كما أكد د. ناشف على أهمية دور المثقف في كسر المرآة التي يصنعها الصهيوني المستعمر والخروج عن إطار علاقات القوة التي يبنيها بهدف تحرير إنسانيتا وتحرير الإنسان، وخاصة أن الاستعمار يفقدنا إنسانيتنا وممارستها

بعده تحدث د. أحمد سعدي، المحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة بن غوريون، الذي قام هو الأخر بتقديم قراءة سريعة للكتاب متوقفا عند دور المثقف المعاصر. "السؤال هو لماذا ندرس المثقف، ولماذا نعطيه هذه الأهمية؟ ما الذي يملكه المثقف غير المعرف العينية؟ السؤال ليس ما هو دور المثقف، بل لماذا نطرح أصلاً مثل هذا السؤال"، قال د. سعدي. ثم تناول دور المثقف عبر حقبات زمنية مختلفة ومن خلال أيديولوجيات مختلفة. ثم أشار سعدي إلى أن دور المثقف في السياق الإسلامي العربي الكلاسيكي هو محاربة الظلم، أما في العالم الثالث فللمثقف دور هام في بلورة الوعي القومي.

"أعتقد أن على المثقف أن يمتلك فكرا كونيا وأن تكون له نظرة مميزة للواقع. أما بالنسبة لدور المثقف، فالمجتمع هو من يمنح هذا الدور للمثقف، وأعتقد أنه لا يوجد للمثقف دور خاص، وأن التوقعات منه في غير محلها. وعلى كل إنسان العمل في مجال تأثيره هو. وأعتقد أن المثقف المعاصر بدأ يفقد دوره الكلاسيكي، بل ان الجامعات بدأت تفقد دورها. حتى الكلمة والنص يفقدان مركزهما، فاليوم يبرز دور الإشارات والصورة التي بدأت تأخذ دورا هاما في التأثير على الوعي"، قال د. سعدي.

هذا وعقبت د. هنيدة غانم على المداخلتين السابقتين، مشيرة إلى أن الكتاب عبارة عن رسالة دكتوراه وأنه من الضرورة الحكم عليه بصفته هذه. وقالت أنها حاولت عبر هذا الكتاب تمثيل الأمور والقضايا التي شغلت بال المثقفين وتفكيك تلك المواضيع وتحليها. "صحيح أن حدود القضايا التي شغلت بال المثقفين، وأن حدود الكلام، هي نفسها حدود الأزمة. فالمساحة التي يتحرك داخلها المثقف الفلسطيني هي حدود تحكمها علاقة السيد والعبد"، قالت د. غانم. كما أشارت إلى أن الكتاب لا يتناول السياق والمثقف الفلسطيني ما بعد عام 2000.

 

بعد المداخلات دار نقاش بين المشاركين حول دور المثقف، وخاصة في ظل الاستعمار. حيث تمحور النقاش بين الدور المهني والتحليلي للمثقف وبين الدور العملي في تحليل الواقع بهدف تغييره.

Dr. Huneida Ghanem, General Director of Madar – the Palestinian Forum for Israeli Studies

Dr. Ismael Nashef (Lecturer, Faculty of Social Sciences at Ben-Gurion University in Beer el-Sabe)

Dr. Ahmed Sa’adi (Lecturer, Faculty of Political Sciences at Ben-Gurion University); Mtanes Shihade, Researcher at Mada al-Carmel