اختتم مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة في حيفا، السيمنار السادس من برنامج دعم طلبة الدراسات العليا، وذلك بمشاركة أحد عشرَ طالبًا وطالبة دراسات عليا فلسطينيّين من جميع أنحاء البلاد. أدار البرنامج وأشرف عليه أكاديميًّا د. مهنّد مصطفى، المدير العام لمدى الكرمل، ونسّقته د. عرين هواري- منسّقة مشروع برنامج طلّاب الدكتوراه في مدى الكرمل وباحثة في المركز. يهدف البرنامج إلى احتضان طلبة الدراسات العليا الفلسطينيّين في الجامعات الإسرائيليّة ومنحهم منصّة لمناقشة دراساتهم وأبحاثهم بلغتهم الأمّ، والى توفير إطار يستطيع الطلبة خلاله التعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرّية، وسماع تقييمات وملاحظات حول أبحاثهم من كبار المحاضرين والمحاضرات الفلسطينيّين. كما تهدف الورشة إلى بناء باحثين فلسطينيّين مقاومين للأكاديميا الإسرائيليّة المهيمنة، نقدها ونقضها.

بالإضافة الى ورشات العمل وحلقات النقاش والحوار التي شارك فيها الطلبة، استضاف السمينار مجموعة من الشخصيّات الأكاديميّة الفلسطينيّة البارزة وأتاح للطلّاب التعرّف عليهم والاكتساب من خبراتهم البحثيّة وتجاربهم الأكاديميّة، هم: الدكتورة ياسمين ظاهر، د. سامي محاجنة، البروفيسورة خولة أبو بكر، البروفيسور أمل جمّال، د. أيمن اغبارية، البروفيسورة منى خوري كسابري، والدكتورة تغريد يحيى- يونس. وقد قدّمت هذه الكوكبة من الشخصيّات الأكاديميّة للطلّاب نصائحًا حول مواضيع مختلفة كعمليّة كتابة رسالة الدكتوراة والتحدّيات المتعلّقة بها، منهجيّة البحث الكمّيّ والنوعيّ، الكتابة والنشر في مجلّات أكاديميّة، مسار ما بعد الدكتوراه، وغيرها. كما وشارك المحاضرون الضيوف طلّاب الورشة بمراحل ومحطّات تطوّرهم المهنيّ والبحثيّ، مشدّدين على بعض القضايا ذات البُعد الوطنيّ والمجتمعيّ  كالمسؤولية المجتمعيّة للباحث والباحثة، دور المثقّف في مقاومة الهيمنة الأكاديميّة في الجامعات الاسرائيليّة والإنتاج المعرفيّ المُنحاز للعدالة  وغيرها من الموضوعات. 

وعبّر المشاركون والمشاركات عن مدى أهمّيّة وضرورة وجود أطر كهذه تجمع طلّاب الدراسات العليا الفلسطينيّين من طرفَي الخط الأخضر، وبناء شبكة تواصل فكريّ بينهم، والانكشاف على الحقل الأكاديميّ واستسقاء النصائح من باحثين وباحثات فيه، والتعرّف عليهم عن قرب. حيث علّق المشترك لؤي وتد على هذه التجربة قائلًا “الإضافة الحقيقيّة التي حصلت عليها من هذا البرنامج هي تجسيد الباحثين الفلسطينيّين التي كانت معرفتي بهم  لا تتعدّى أسماءهم التي سمعت عنها أو التي قرأتُ لها، أمّا اليوم فوجوههم باتت مألوفة لي، ولها ملامح، وحصلت لنفسي على علاقة شخصيّة مع الاسم. كما وسُدّت فجأة هذه الفجوة بيني وبينهم التي تشكّلت سابقًا بسبب عوامل مثل مكانتهم الأكاديميّة أو فجوة الجيل أو النخبويّة التي يتميّز بها الحقل الأكاديميّ. أمّا اليوم أنا أشعر أنّي أصبحتُ جزءًا من هذه المجموعة، وبأنّ هذه المجموعة على استعداد لاستقبالي وتقبّلي فيها، وبأنّ لي مكانًا وحيّزًا في إطار هذه المجموعة”.

أمّا المشاركة عائشة مسلماني، وهي طالبة من القدس، فقد اختارت أن تشارك بتجربة عاطفيّة كانت قد عايشتها في برنامج طلّاب الدراسات العليا، هي: ” التواصل مع طلّاب فلسطينيّين من الداخل، بعد حالة من الفقد والنقص التي عانيتُ منها في القدس، خاصّة في إطار دراستي في الجامعة العبريّة. ما صدمني للغاية هو شعور الانقطاع عن طلّاب وباحثي الداخل، وقد تمكّن هذا البرنامج من ملء هذه الفراغات لديّ ومساعدتي على تجاوز شعور الانقطاع لديّ. أما ما لا شكّ فيه هو أنّ هذا البرنامج كان غنيًّا ومثريًا بالنسبة لي”.

تجدرُ الإشارة إلى أنّ مركز مدى الكرمل يهدف إلى تطوير وتوسيع هذا المشروع، بافتتاح ورشات لطلّاب البكالوريوس كذلك، وإطلاق مسابقة أفضل سمينار لطلّاب البكالوريوس ابتداءً من هذا العام. وقد عقّب د. مهند مصطفى، المدير العام لمدى الكرمل، على ذلك قائلا: “نهدف من خلال  توسيع المشروع إلى خلق دائرة من التدريب البحثيّ الناقد والمهنيّ من مرحلة البكالوريوس وحتّى الدكتوراه، عبر ورشات بحثيّة وتدريببيّة، تُساهم في إعداد جيل من الباحثين الفلسطينيّين النقديّين والجادّين. لذلك سوف نطلق مشروع سيمنار طلّاب البكالوريوس في العلوم الاجتماعيّة ليلتقي مع سيمنار طلّاب الدراسات العليا الذي دمجنا فيه هذا العام طلّاب ماجستير الى جانب طلّاب دكتوراه، ليلتقي كلّ ذلك مع ورشة الصهيونيّة والاستعمار الاستيطانيّ، لنبني دائرة يستطيع مدى من خلالها مرافقة الطلّاب وتطوير قدراتهم البحثيّة وكشفهم على تجارب أكاديميّة لباحثين فلسطينيّين، نحو بناء الباحث الفلسطينيّ المثقّف”.

عقد مركز مدى الكرمل اللقاء الأخير من سمينار طلّاب الدراسات العليا في المدرسة الأهليّة في أم الفحم. وقد انقسم هذا اللقاء إلى جزأين، الجزء الأوّل قام باستضافة البروفيسورة منى خوري كسابري، عميدة مدرسة الخدمة الاجتماعيّة في الجامعة العبريّة، بلقاء وحوار مفتوح مع الطلّاب حول تجربتها الأكاديميّة ومسيرتها كمحاضرة.  يهتمّ مجال بحث بروفيسور كسابري، بالعنف داخل الأسرة، المجتمع العربيّ والمدارس.  وقد شاركت بروفيسورة كسابري تجاربها في الحقل الأكاديميّ مع الطلّاب، مشدّدة على أهمّيّة تحويل الشغف وحبّ الموضوع إلى قوّة دافعة للتميّز، والتطوير والمساهمة في المجال البحثيّ. وشدّدت كسابري على القراءة بهدف الإبحار في مجال البحث، وتوسيع الآفاق وتطوير المعرفة. كما وتناولت كسابري الصعوبات والتحدّيات التي قد يُواجهها الباحث المبتدئ في بداية مسيرته، أوّلها  صعوبة الكتابة، والفجوة بين الأفكار المتصوّرة والنصّ المكتوب لدى الباحث. وقد أجابت كسابري عن أسئلة عديدة  للطلّاب متعلّقة بالانخراط في السلك الأكاديميّ، والعمل فيه، منها ما يدور حول موضوعات الكتابة والبحث، والجيل، والعلاقة بين المشرف والطالب، واندماج طلّاب جامعات خارج البلاد بالأكاديميا في إسرائيل، والتنافس في الأكاديميا الإسرائيليّة، وفرص العمل فيها،  والدمج بين التجربة العمليّة والنظريات الأكاديميّة، وغيرها. وقد أنهت كسابري مشاركتها بالتشديد على وظيفة الأكاديميّ في تطوير المجتمع وعدم الانحصار في تطوير الذات وحسب.

في الجزء الثاني من اللقاء، قدّمت كلّ من الدكتورة تغريد يحيى- يونس، باحثة ومحاضرة في السوسيولوجيا، الدراسات الثقافية ودراسات الجندر، والدكتور مهنّد مصطفى، المدير العام لمدى الكرمل، ندوة بعنوان ” إنتاج الباحث/ة الفلسطينيّ/ة المقاوم/ة أكاديميًّا”.  افتتحت د. تغريد الندوة بالحديث عن المعرفة المقاومة، مبيّنة علاقة القوّة بالمعرفة التي تنتج في إطار وسياق قوّة، وليس في فراغ، كما زعم إدوارد سعيد. للمعرفة كما تقول د. تغريد صلة وثيقة بعلاقات قوّة وأبعاد عديدة، مثل البعد العنصريّ، العرقيّ، الإثني، الطبقيّ، الجندريّ والجغرافيّ. كما وكشفت د. تغريد عن زيف الموضوعيّة في العلم والمعرفة، حيث لذاتيّة الباحث الخاصّة حضور في البحث، وهنالك انعكاسيّة يتميّز بها الباحث، وزاوية رؤية خاصّة به هي حصيلة هويّته كباحث وهويّاته الأخرى. 

أشارت د. تغريد إلى ثلاثة أمور يجب على الباحث التركيز فيها عند كتابة البحث، هي: إعداد الباحث لإنتاج معرفة معيّنة، والإنتاج المعرفيّ؛ بدءً من الأطروحات، أو المقالات والكتابات، ونوعيّة الإنتاج المعرفيّ الذي ينتجه الباحث، هل هو إنتاج معرفيّ بديل أم شبيه بذلك في المؤسسات الإسرائيليّة. وبيّنت د. تغريد أنه لا يمكن أن نفهم الإعداد والإنتاج وسيماته إلّا من خلال السياق، لذلك يجب موضعة البحث في سياق وتاريخ، هو استعماريّ استيطانيّ في حالتنا. 

أتبعت د. تغريد كلامها هذا بالحديث عن أهمّيّة الانكشاف على مواد نظريّة ومعرفيّة مكتوبة في بطون الكتب، من خارج إطار الثقافة المهيمنة والتوجّهات الغربيّة التي تتميّز بالاستعلائيّة والاستشراقيّة لكلّ ما هو غير ذلك. كما وذكرت أنّ هذه الثقافات المهيمنة كالأكاديميا الإسرائيلية تميل إلى تغييب الإرث المعرفيّ لكلّ الشعوب المُستعمرَة، مثل ابن خلدون في الإرث المعرفيّ العربيّ الإسلاميّ. 

انتقلت د. تغريد للحديث عن محوري المقاومة الأكاديميّة، هما: محور مقاومة المعرفة الاستشراقيّة الاستعماريّة من خلال التعرّف على الإرث المعرفيّ البديل، استحضاره واستخدامه في كتاباتنا، والاشتباك الحاصل بين الأدبيّات المهيمنة والبديلة، بدون أن يلغي أحدهما الآخر، بل محاورتهما، ونقدهما.  أمّا المحور الثاني، وعلى الرغم من شحّ المعرفة الفلسطينيّة، هو مقاومة المعرفة النخبويّة، التي تُكتب على يد فئات نخبويّة من الأكاديميّين، وعن شرائح نخبويّة، بمنظور نخبويّ ولغة نخبويّة وتغييب الشعب في هذه المعرفة النخبويّة، والفئات المهمّشة والمغايرة من النساء، الفقراء، النازحين، القرويّين والفلّاحين. 

تابع الدكتور مهند مصطفى الندوة بعد د. تغريد، ويجدر بالذكر أنّه قد كتب كتابًا عن التعليم العالي بعنوان ” المؤسسة الأكاديميّة الإسرائيليّة”، وكتابًا عن الحركة الطلّابيّة.  افتتح د. مصطفى حديثه بالحديث عن سؤال الانحياز، مشيرًا إلى أنّ جميع المؤسسات الأكاديميّة في العالم تخدم مشروع سياسيّ لأنّها جزء من البنية الاجتماعيّة والسياسيّة التي نشأت فيها هذه الجامعات، معقّبًا أنّ السؤال الحقيقيّ ليس الانحياز بل أخلاقيّة الانحياز. وأتبع مصطفى السؤال هذا بسؤال آخر يتعلّق بالهدف من وراء فعل إنتاج المعرفة، هل هو التغيير الاجتماعيّ أم توسيع معرفتنا وفهمنا أكثر للظواهر؟ مبيّنًا أنّ كلّ تغيير سياسيّ اجتماعيّ في التاريخ الحديث سبقته ثورة معرفيّة بدءً من الثورة الفرنسيّة حتّى الثورات العربيّة. 

انتقل مصطفى للحديث عن الأيديولوجيا وتجميدها للمعرفة بسبب تميّزها بالطابع الخلاصيّ، أمّا المعرفة فهي انسيابيّة، متراكمة ومتطوّرة، وليس لديها بُعد خلاصيّ تتوقّف فيه البشرية عن التطوّر. واستشهد بقول توماس كون، الذي لا يقول بوجود تراكم معرفيّ ولكن ثورات معرفيّة. وتحدّث مصطفى عن الطبقات المفقودة في معرفتنا، هي تلك التي سبقتنا، وذلك بسبب هوس التقدّم للطبقات التاليّة دون التنقيب بالسابقة، ناصحًا الطلّاب بإزالة الوساطة بينهم وبين المعرفة والطبقات الأساسيّة والرئيسيّة لأنّ الوساطة فيها انحياز. 

وتناول مصطفى ضرورة الموضوعيّة في المنهجيّة البحثيّة، أمّا الانحياز في موضوع البحث، والقراءات الأنطولوجيّة للواقع فهي مطلوبة ومرغوبة بعيدًا عن النفاق والزيف البحثيّ، وهذا لا يتناقض مع الأخلاقيّة البحثيّة. بعد انتهاء اللقاء قام مركز مدى الكرمل بدعوة الطلّاب إلى وجبة احتفاليّة في أحد المطاعم، وتوزيع الدفعة الثانية من المنحة على الطلّاب.