مرة أخرى تتفاجأ إسرائيل ومؤسساتها الأمنية والاستخبارية والسياسية بحدث سياسي – أمني قد يتدحرج إلى انتفاضة ثالثة، عملت إسرائيل في السنوات العشر الأخيرة على فرض سياسات الحفاظ على الوضع القائم –ستاتيكو- في الضفة الغربية وغزة. فقد ساهمت في استمرار الانقسام الفلسطيني (وجود سلطة فلسطينية منقسمة بين رام الله وغزة)، وفرضت توسيع المستوطنات وتكثيف عدد المستوطنين، وتغيير الجغرافيا والديموغرافيا في مناطق ج في الضفة الغربية، بلا أي ثمن أمني أو سياسي جدي.
وبهذا المعنى، سعت إسرائيل إلى خلق واقع سياسي واقتصادي تفرض فيه، بشكل غير معلن أو رسمي، على الطرف الفلسطيني حل من طرف واحد ويرتكز إلى الوضع القائم. وكانت السلطة الفلسطينية أعجز من أن تؤثر على قرارات وسياسيات إسرائيل أو تغيرها.
المثير في الحالة الإسرائيلية هو تراجع مكانة القضية الفلسطينية في الصراعات السياسية الداخلية في العقد الأخير، أي أنها لم تعد تشكل عاملًا من عوامل الشرخ أو التصدعات السياسية الهامة في المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل (كما كانت عليه منذ احتلال الضفة الغربية وغزة 1967، ولغاية اتفاقيات أوسلو واغتيال يتسحاق رابين عام 1995)، وهناك شبه إجماع على قبول الحالة القائمة. ظهر هذا بشكل جلي في الحملات الانتخابية الأخيرة، 2013 و2015.
ففي انتخابات 2013، لم يطرح حزب العمل أي برنامج 'سلام' أو حل سياسي يخرق الإجماع الإسرائيلي، بل إن شيلي يحيموفيتش همشت قضية الاحتلال في برنامجها الانتخابي كي لا تخسر الأصوات. وفي 2015 جل ما طرحه يتسحاق هرتسوغ وتسيبي ليفني هو الحاجة إلى العودة للمفاوضات، وأكثر ما قدمه حزب 'كولانو' بزعامة موشيه كاحلون أو “يش عتيد' بزعامة يئير لابيد هو الحاجة للتفاوض مع السلطة الفلسطينية كي لا 'نصل في نهاية المطاف إلى دولة واحدة'، كما جاء في برنامج حزب لبيد الانتخابي، وكي لا تصطدم إسرائيل مع أصدقائها في الغرب. في انتخابات 2015 لم تشكل القضية الفلسطينية والاحتلال حالة مركزية في حملات الانتخابات، على الرغم من الحروب الأخيرة على غزة.
في هذه الحالة، تحول الاحتلال والسيطرة الإسرائيلية على الضفة والقطاع إلى حالة طبيعية في المشهد الإسرائيلي يمكن التعايش معها بلا أثمان جدية، بل الاستفادة منها اقتصاديا وسياسيا. ناهيك عن أن الأجهزة الأمنية ما زالت تعيش وهم 'الهدوء' الاصطناعي وقدرة السلطة على منع أي احتجاجات جدية. ربما استندت في ذلك إلى تجارب السنوات الأخيرة التي شهدت بعض الاحتجاجات التي روضتها وأجهضتها السلطة الفلسطينية، وبغياب جاهزية فلسطينية للمواجهة.
إسرائيل عاشت مرة أخرى في أوهام قناعات ذاتية وتفكير جماعي موحد يرتكز على قناعات أيديولوجيا، دون الانتباه إلى التغيرات على أرض الواقع. إسرائيل لم ترغب بوصول الأوضاع إلى هذه الحالة. لذلك هي متفاجئة، مرتبكة، مصدومة، وتتمسك فقط بالحلول الأمنية العسكرية، وعاجزة عن طرح أي حل سياسي.
المشهد في الداخل الفلسطيني
رد الفعل في صفوف الفلسطينيين في الداخل ليس مستغربا أو جديدا. فمنذ الانتفاضة الثانية (تشرين الأول/ أكتوبر 2000) كسر الفلسطينيون وهم الخط الأخضر وتحولوا إلى جزء من حل القضية الفلسطينية، وأخذوا دورًا معنويًا وسياسيًا جديًا في الحالة الفلسطينية.
الفلسطينيون في الداخل يرفعون صوتهم المعارض للسياسيات الإسرائيلية عامة، في الضفة والقدس وغزة، وأيضا ضد السياسيات الإسرائيلية تجاههم. إذن لا يمكن الفصل بين ردة الفعل عن انتهاكات حرمة القدس والأقصى وبين علاقتنا مع دولة إسرائيل ومحاولات المؤسسة الإسرائيلية بقمع الهوية الفلسطينية، وفرض الخدمة المدنية، والملاحقات السياسية، ومخطط برافر، والقوانين العنصرية التي سنت بالعشرات، وتعامل المجتمع الإسرائيلي مع المواطنين العرب، وموقف بنيامين نتنياهو في الانتخابات الأخيرة، وتقليص هوامش العمل السياسي وفرض سقف للمطالب السياسية بواسطة قوانين. أي أن لدى الفلسطينيين في الداخل كل الأسباب للمطالبة بتغيير قواعد اللعبة السياسية القائمة المجحفة بحقهم.
وبما أننا الأضعف في معادلات القوى السياسية وأدوات العمل السياسي التقليدي فمن الطبيعي أن نستعمل أدوات احتجاج إضافية، منها التظاهر والاعتصام. موجة الاحتجاج السياسية الحالة تقرب الفلسطينيين أكثر وأكثر للاندماج في مشروع وطني سياسي فلسطيني جامع، وتحولنا إلى لاعب فاعل في السياسية الفلسطينية الداخلة أيضا، وليس فقط الإسرائيلية، خاصة بعد إقامة القائمة المشتركة التي عُوِل عليها فلسطينيا بشكل كبير. إشارة إضافية إلى هذا التحول هي محاولات السلطة الفلسطينية والرئاسة الفلسطينية الضغط على الأحزاب العربية في الداخل للجم الاحتجاج.
تأثير الفلسطينيين في الداخل على المشهد السياسي العام هو أمر واقعي في الأوضاع الحالية وعلينا أن نعي هذا الواقع ونتصرف بشكل واع وفقا له. لم نعد على الهامش المزدوج، بل قلب الحدث. لذلك مطلوب فورا عمل وتنسيق جماعي تقوده القائمة المشتركة ويشمل لجنة المتابعة واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني والحراك الشبابي وفعاليات سياسية أخرى، بهدف وضع برامج احتجاج جماعي متفق عليه لكافة التيارات والفئات، ووضع مطالب سياسية واضحة من الحكومة الإسرائيلية، في محور القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال وأيضا في محور مكانة الفلسطينيين في إسرائيل.
الوضع الراهن هو أول امتحان جدي للقائمة المشتركة، ويُمنع أن تفشل به، فالفشل سيفرغها من مضمونها السياسي ويقوض شرعيتها لقيادة المجتمع الفلسطيني في الداخل، ويحولها إلى قائمة مقاعد. فكما نجحت الأحزاب في تخطي عقبات إقامة القائمة المشتركة وتقديم تنازلات بغية تحقيق هدف الوحدة، عليها تخطي الاجتهادات المختلفة للتعامل مع الوضع الراهن ووضع أهداف ومطالب جماعية وأدوات العمل لتحقيقها. ومن يُفشِل العمل الجماعي يجب أن يعاقب جماهيريا.
هناك فرصة متاحة لتنظيم المجتمع الفلسطيني، لوضع مطالب لا تطرح في الأوقات الاعتيادية، ولتغيير قواعد اللعبة السياسية. وإذا استثمرت الحالة السياسية بشكل صحيح وعقلاني ومدروس من قبل كافة التيارات الفلسطينية قد تساهم في إنهاء الاحتلال والتحرر من المشروع الاستعماري الصهيوني، ومنع سفك الدماء في المستقبل ووقف الاعتقالات والقمع، والحصول على الحقوق الطبيعية، القومية والمدنية كافة، للفلسطينيين في الداخل. يجب استثمار الحالة الراهنة سياسيا لتغيير الأوضاع لا لتكريسها عن طرق إجهاض النضال.